من بديهيات السياسة أن التفاوض الأصعب إنما هو ذاك الذي يجرى مع الأعداء. ومن بديهياتها كذلك أن حيز التفاوض في السياسة كبير جداً، وأن الغالبية الساحقة من حالات النزاع السياسي، سلمياً كان أو دموياً، إنما تُنهى بالتفاوض. ويُفترض بهذا على أية حال أن يكون مستمراً، وانقطاعه ينبئ بوصول النزاع إلى لحظة اختناق خطرة، غالباً ما ينصب الجهد على تجاوزها ليعود الصراع إلى قاعدته: نضال أو قتال ومفاوضة. ومن يريد درساً في هذا الشأن عليه العودة إلى تفاصيل تجارب الانتقال الديموقراطي في أميركا اللاتينية حيث سادت ديكتاتوريات فاشية دموية، وقبلها في إسبانيا مع موت فرانكو الذي أتاح الانتقال، وحيث لعب الملك (كان ملكاً في ظل فرانكو كذلك) دوراً في تسهيل العملية. نعم، هناك فوارق كبيرة، كما الحال دوماً، لكن هذه ليست حجة للجهل أو للتعامي. نعم، سورية ليست ليبيا والبحرين ليست اليمن، وهلمجرا! وحتى لا تختلط الأمور، رديف هذه المبادئ أنَّ للتفاوض قوانين وشروطاً. فهو يستند دائماً إلى توازنات قوى، وهذه تُبنى ميدانياً. لذا لا يوجد تفاوض بالمطلق، أي متحرر من هذه القاعدة. ولعلنا في العالم العربي مقتنا فكرة التفاوض السياسي من فرط ما ابتذلتها السلطة الفلسطينية منذ أوسلو، وحولتها إلى قناع للاستسلام. وهذا تحديداً ما يحدث حين يُحرَّر التفاوض من ضوابطه، وعلى رأسها الاستراتيجيات والأهداف، أي ما يمكن الوصول بصدده إلى تنازلات، وما لا يقبل المساومة. يفترض ذلك أن الأطراف المتفاوضة قادرة على المزاوجة في صورة مستمرة بين النضال/ القتال والتفاوض. وهذا لا يستقيم إذا فُقد الشق الأول من تلك القدرة. ولقد فاوضت السلطة الفلسطينية مستندة فحسب إلى القوة الرمزية للقضية الفلسطينية، وهي كبيرة جداً بالفعل، لكنها لا تكفي. فكيف حين يتعلق الأمر بموازنة الإجرام الإسرائيلي/ الصهيوني ذي الطابع الانتحاري في نهاية المطاف، علاوة على استثنائية إسرائيل من زوايا متعددة، منها (وليس وحدها) وظيفتها لدى الإمبريالية. وهذا كله يشي بخاصية معقدة جداً، لم يكن المفاوض الفلسطيني مهيأ للتعاطي معها، ناهيك بجنوحه «البنيوي» إلى عيوب كبرى معطِّلة، منها الفساد. ومنذ يومين، وبعد انتشار دخان القنابل المسيلة للدموع في شوارع البحرين، أعلنت حركة الوفاق، كبرى حركات المعارضة، التي كانت تحوز على نصف مقاعد البرلمان، أنها التقت وزير الديوان الملكي البحريني، وناقشت معه مبادئ وثيقة المنامة للانتقال الى ملكية ديموقراطية. وقد واجهتها أصوات «ثورية» منددة، تقول إن الوفاق تخسر لمصلحة حركات «أكثر راديكالية». وحالة البحرين، على صغر البلد، في غاية الثراء لجهة المدلولات. وحل الأمر ليس بالمحاصصة العددية. والبلد يتوسط قطبي منطقة الخليج، أي إيران والسعودية. وكل ذلك، في ظل المعطيات الحالية للموقف في شكل عام، يهدد بدفع الصراع في البحرين نحو الخروج من إطاره ليحمل معارك أخرى، أو ما يقال له في اللغة السياسية الدارجة بالتحول إلى «ساحة». ومن المؤكد أن الوفاق، ومعها القوى الخمس الأخرى الأساسية المتحالفة والتي انتجت وثيقة المنامة، تفاوض على ما سمّته هي بنفسها «الحل السياسي بعد فشل الحل الأمني». وثمة مثال آخر شديد الدلالة، هو اليمن، حيث اتجهت قوى «اللقاء المشترك»، وهو تحالف عريض ومتنوع، إلى قبول المبادرة الخليجية التي تحولت مبادرة أممية، والى التفاوض على المرحلة الانتقالية التي بدأت بتوقيع علي عبد الله صالح على المبادرة (بصعوبة شديدة وبعد مراوغات)، ومغادرته البلاد. وتمثل انتخابات 21 شباط (فبراير) المقبلة محطة أساسية. فإن أجريت كما ينبغي لها وأصبح عبد ربه منصور هادي رئيساً، ومعه السيد باسندوه رئيس وزراء (كلاهما من الشطر الجنوبي)، تفتتح فعلاً مسيرة قد تحمل الإنقاذ. «اللقاء المشترك» قبِل بتقاسم الوزارة الحالية مع حزب علي صالح، وهو ليس بصدد إطلاق حملة لاجتثاثه، على ما بات موضة خطرة (في الحق، فاشية تماماً). وهو يصارع للحفاظ على عملية انتقالية سلمية وتدريجية، ويمتلك القوى اللازمة ميدانياً لخوض هذا الصراع بنجاح. وبديل هذا المسار ليس حالة أكثر ثورية بل الحرب الأهلية: حرب في الجنوب يدعو إليها أمثال السيد علي سالم البيض الذي كان في وقت من الأوقات رئيس اليمن الجنوبي ثم فاوض علي صالح بمنطق استسلامي كان في أساس عطب الوحدة اليمنية، وحرب يمكن أن تغري الحوثيين بإمارة في الشمال، ستستولد إمارات وسلطنات في أنحاء اليمن. ويمكن أن نعرّج على عدد لا يحصى من التجارب: ما يجري في أفغانستان حالياً، وفي ليبيا، حيث تسود فوضى قاتلة نددت بها قبل يومين منظمة العفو الدولية بأكثر الكلمات حدة، وهي الثمن الذي تدفعه البلاد للحرب التي شنها عليها الناتو، والتي لم تطح القذافي فحسب، بل منطق الحياة السياسية، مطلقة العنان لكل أنواع الاحتراب القبلي والجهوي والعرقي. فإن كان هذا مثالاً يُحتذى، فيا للهول! وأما في سورية، فالسلطة القائمة تفهم الانتقال والإصلاح والتفاوض وفق منطق غريب، يعتمد على الدائرة الذاتية المغلقة. وبعد أن كان حزب «البعث» يظن نفسه «طليعة» للأمة، ها هو... يمعن، فيتخيل بنود الإصلاح اللازمة ويقرر وحده مبادئ الدستور الجديد ويطلق استفتاء عليه (يا للتحضر!)، ويعد بانتخابات عامة وشيكة، متناسياً أن البلد غارق بدماء أبنائه، وأنه تجاهل الحاجة للإصلاح، ودفع الأمور عمداً نحو الاحتراب، تخلصاً، تحديداً، من مستلزمات ذلك الإصلاح. وتدابيره اليوم مجدداً عملية مقلوبة على رأسها. وهي تجري في ظل تصعيد الحل الأمني نحو تحوله مجزرة اجتثاثية. لكن معارضاته ومن يدعمها لا تقل عنه روحَ اجتثاث، وكل ذلك تمكن من تحوير ما بدأ صراعاً سياسياً واجتماعياً في سورية إلى... ساحة! ولن يجدي الاستقطاب المتعاظم في دفع الأمور نحو الانفراج: من جهة مؤتمر «أصدقاء سورية» الموشك على الانعقاد، ومن جهة ثانية الدبابات التي تدك الأحياء. ويوجد ما يجعل المرء يخشى فوات الأوان، على رغم جولات التفاوض الديبلوماسية الروسية بالنيابة عن سلطة دمشق.