في 15 تموز (يوليو) 2008 نشرتُ مقالة بعنوان: «إدارة التوحش وجذوره الايديولوجية»، تناولت فيها كتاب «إدارة التوحش»، وبعد ستة أعوام حبلى بالأحداث التي تقترب مما نظّر له هذا الكتاب، ومن أهمها إعلان الدولة الإسلامية (داعش سابقاً) قيام دولة الخلافة، أعود مرة أخرى لتناول هذا الكتاب: يمثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش سابقاً)، الذي ولد من رحم تنظيم القاعدة وما يحمله من فكر إرهابي تدميري متطرف منسوب إلى الإسلام، لغزاً محيراً للكثير من دارسي التاريخ الإسلامي، فيجد فيه بعض الباحثين محطات من العنف والاقتتال، إلا أن درجة العنف والدمار الذي يمارسه «القاعدة» وتنظيم الدولة الإسلامية، ويروجان له على أنه فكر إسلامي يثير كثيراً من التساؤلات حول الجذور الفكرية لهذين التنظيمين، فهل هي دينية؟ أم آيديولوجية سياسية؟ وبتتبع خطاب تنظيم الدولة الإسلامية وفترات المد والجزر التي مر بها خلال الأعوام الماضية وما استقر عليه أخيراً، من إعلانه دولة الخلافة تحت مسمّى الدولة الإسلامية، ومبايعة خليفتهم ومطالبتهم المسلمين في العالم مبايعته والهجرة إلى دولة الخلافة تلك، نجد أن الاعتماد على الخطاب الديني المتمثل في عسف النصوص القرآنية والأحاديث النبوية للترويج لفكره واستقطاب أتباع جدد، هي استراتيجية تم تجاوزها، بعد أن نجحت في ترسيخ صورة نمطية في أذهان العامة عن التنظيم وتوجهه الديني بحسب رأي قادته، وأن لا بد من الانتقال إلى المرحلة الأساسية التي وجد التنظيم من أجلها، وهي مرحلة إقامة الدولة، وما يسبقها من مراحل، مما فرض على التنظيم تقديم رؤيته السياسية بأسلوب أقرب ما يكون إلى النظرية السياسية العسكرية المبسطة، وأبعد ما يكون عن الخطاب الديني، وهذا ما أكده كتابهم «إدارة التوحش»، إذ ورد فيه: «إن العمل السياسي مهم جداً وخطر، حتى قال أحدهم إن خطأ سياسياً واحداً أوخم عاقبة من 100 خطأ عسكري»، وفيه أيضاً: «هذا القول على ما فيه من مبالغة كبيرة، إلا أنه صحيح بقدر ما يبين خطورة الخطأ السياسي». الكتاب جعل العمل السياسي مقدماً على الشرع، فنجده يُخطئ أتباعه المخالفين: «ومن ذلك نعرف غلط من يطالب بالنص الشرعي الذي يدل على ما يقرره الأمير من أمور السياسة الشرعية التي هي من واجباته». إذاً العمل السياسي لديهم مناط بالقادة فقط، ولا يسمح للأعضاء بمطالبة القادة بالاحتكام للشرع، أو حتى مناقشتهم في ذلك، «فالقادة لا شك تعرف كثيراً من أسرار العمل، لذلك في خطتنا نفتح باب الإدارة على مصراعيه لمن يتقنه، أما باب القيادة فهو للثقات فقط». وفي مكان آخر نجده يناقض نفسه في علاقة الشرع بالسياسي: «هذا التوحش وعدم الأمان بسبب بعض العصابات، أفضل شرعاً وواقعاً من سيطرة السلطات على الأوضاع». فأين هذا الفكر الداعي للفوضى مما ُذكر في مجموع فتاوى ابن تيمية، وكذلك في السياسة الشرعية لابن تيمية من أنه «روي أن السلطان ظِلُ الله في الأرض، ويقال: ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان». من هنا يمكن الاستنتاج بأن معظم الأعضاء المنتسبين لهذا التنظيم ولتنظيم القاعدة مغيبون تغييباً كاملاً عن الأهداف السياسية للقيادة، وهذه إحدى الاستراتيجيات التي قامت عليها التنظيمات الشيوعية، مستخدمة أسلوب تنظيم الخلايا، وهي أشبه ما تكون بشبكة العنكبوت يمثل فيها الفلاحون والبسطاء فكرياً نسيج تلك الحركات، ومع ذلك فهم معزولون عن مركز القرار ومعرفة أهداف التنظيم السياسية، فيعيشون في حلم ما يُنظّره لهم قادتهم، لذلك تعمل التنظيمات الشيوعية على استبعاد شريحة الطلاب والمثقفين من العمل الحركي، وهذا ما ينتهجه القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، ففي كتاب «إدارة التوحش» إن إمكان ضم مليون من أمة البليون أسهل من ضمهم من شباب الحركة الإسلامية الملوثة بشبهات مشايخ السوء، فشباب الأمة على ما فيهم من معاص، أقرب للفطرة، وخبرات العقود السابقة أثبت لنا ذلك، فالشباب النابه المتحصن بالعقيدة الصحيحة الذي يحرجهم بالحجج الشرعية التي تكشف شبهاتهم، هو الشباب الملوث وبالتالي يستعصى تجنيده. كما رسخ تنظيم القاعدة، ومن بعده الدولة الإسلامية، الإرهاب الفردي فجعلاه أمراً مقدساً، وأطلقا عليه لقب الاستشهاد، وأن ما يقوم به هؤلاء الشباب في عملياتهم الفردية الاستشهادية (الانتحارية) هو الذي سيحقق التمكين والغلبة، ويرد في الكتاب نفسه: «عن رغبة الشباب المحمودة في الوصول إلى منزلة الشهادة في أقرب فرصة، وينبغي توجيهها لمصلحة العمل». وهذا المنهج هو أيضاً ما كانت تمارسه الحركات الشيوعية، في أعقاب الثورة الاجتماعية في روسيا، ففي بداياتها كانت تشجع وتحرض على العنف والإرهاب الفردي، والترويج للرأي القائل إن الأفراد الأبطال هم من يصنعون التاريخ بتضحياتهم، إلا أن الكتاب لم يستطع أن يذكر دليلاً واحداً مقنعاً بأن العنف والعمليات الانتحارية كمنهج جذورها إسلامية، بل على خلاف ذلك أقر من حيث لا يدري بأن الإسلام أبعد ما يكون عن العنف والإرهاب «ومن مارس الجهاد من قبل، علم أن الجهاد ما هو إلى شدة وغلظة وإرهاب وتشريد وإثخان، أتحدث عن الجهاد والقتال لا عن الإسلام فلا تخلط». نعم يجب ألا تخلطوا أنتم، فالإسلام ليس ما تنادون به، بل هو دين الرحمة والرأفة، فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان إذا بعث جيشاً قال له: «انطلقوا باسم الله لا تقتلوا شيخاً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة ولا تغلوا» (رواه أبو داود). فأين أنتم من هذا؟ كما جعل الكتاب الاقتصاد الهدف الرئيس في نظرية العنف والفوضى تلك: «الأهداف التي نطلب التركيز عليها وأسباب ذلك. قلنا إنه ينبغي علينا أن نضرب جميع أنواع الأهداف الجائز ضربها شرعاً، إلا أننا يجب أن نركز على الأهداف الاقتصادية وخصوصاً النفط»، وعند الوصول إلى مرحلة شوكة التمكين وقيام الدولة كما يحلمون: «وإن الأموال التي ستدفع في مقابل نفط المسلمين لا تدخل بعد اليوم في خزانة الأنظمة المثقوبة بثقب ينفذ إلى مصارف سويسرا، وإنما تتسلمها لجان شعبية، وتقوم هذه اللجان بإنفاقها على الشعوب المحتاجة، وذلك بعد دفع مرتبات العاملين في قطاع النفط، هذه اللجان الشعبية تتكون من أشخاص ثبتت أمانتهم». لذلك نجد أن استهداف الاقتصاد، والنفط بصفة خاصة، لا يمكن فصله عن الجانب الآيديولوجي، الذي يتبناه الفكر الشيوعي القائم على توزيع الثروة وإلغاء الطبقية، وإيجاد طبقية حركية متمثلة في الحزب الشيوعي وأعضائه، وهو ما عبّر عنه في الكتاب باللجان الشعبية، وجعل من يقوم عليها في مصاف قادة التنظيم كونهم فوق الشبهات، وهم نخبة التنظيم كما في الحزب الشيوعي. وفي الجانب الإعلامي، يركز الكتاب على ضرورة مخاطبة العوام، وهم ما يعرف بالجماهير والبسطاء في الحركات الشيوعية «إلا أنه ينبغي التركيز أكثر على تخيل صحيح لعقلية العوام، وما أكثر الأفكار التي تعوقهم عن الالتحاق بصفوف الجهاد، خصوصاً أن لهم طريقة في التفكير وعاطفة تختلف»، وأخفق الكتاب مرة أخرى على رغم محاولاته أن يقنع القارئ بأن إدارة التوحش التي ينادي بها لها جذور إسلامية (كمنهج)، فلم يستطع أن يُسوق فكرته تلك لا عن الحاضر ولا عن الماضي، بل أبدى إعجابه بالحركات الشيوعية في إدارتها للتوحش، وجعلها المثل الذي يحتذى: «نعود للأمثلة المعاصرة لإدارات التوحش، ونركز هنا على الحركات غير الإسلامية، ومنها حركة اليساريين في أميركا الوسطى والجنوبية، ولعل اليساريين أبدعوا في بعض النواحي العملية في إدارة مناطق التوحش هناك وبعضهم أقام دولاً». وبعد المحاولة البسيطة لتفكيك هذا الفكر، هل نستطيع أن نقول إن القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية انتهجا نظرية العنف والإرهاب الشيوعي، التي بدأت بتمجيد الإرهاب والعنف الفردي لدى انطلاقها، وصولاً إلى المرحلة التي نظّر لها لينين وتعتبر الشعب (الأمة في نظر الدولة الإسلامية والقاعدة) وليس الفرد هو الصانع الحقيقي للتاريخ، ليقوم التنظيم بتبني ما يسمى نظرية العنف الثوري القائم على الفوضى، الذي تمارسه طبقة ضد أخرى، ومن خلال إقامتها دولتها المزعومة، مستخدمة وسائل التضليل والتعتيم كافة على أتباعها للوصول إلى هذه المرحلة. وللإجابة عن ذلك لا بد من دراسة معمقة للتجارب التاريخية التي مرت بها الدول العربية مع الفكر الشيوعي ورموزه وما يحمله من تراث إرهابي، وهل هذا الوليد المشوّه فكرياً نتيجة التزاوج الفكري المحرم بين الشيوعي والإسلامي داخل عنابر السجون العربية، خصوصاً في مصر خلال الستينات الميلادية؟ * كاتب سعودي