على رأس سنة منذ انتصار «ثورة يناير»، لا يبدو كثير من وسائل الإعلام المصري بمنأى من النقد واللوم الذي يصل حدّ التقريع! ومن الطبيعي أن تكون شاشات التلفزيون هي صاحبة النصيب الأكبر من ذلك، على الأقل لأن «التلفزيون» بات «ديوان العصر»، الذي لا يقف عند حدود تقديم الأخبار؛ العاجلة منها، والمتأنية، ولا مهمات البثّ؛ الحي المباشر منه، والمُسجّل. صار له (أي التلفزيون) رأي في كل تفصيل، وتعليق على كل حدث، وقول على كل قول. حافلةٌ هي السنة التي مرّت على «إسقاط النظام». كثير من وقائعها دامٍ، والأكثر من تفاصيلها كارثي مأسوي، كأنما لا نهاية لمسلسل الضرب والسحل، والتنكيل حتى القتل، من «ميدان التحرير»، حتى «ستاد بورسعيد»! ومن كان يتوهَّم أن ذاك المسلسل سينتهي مرة واحدة وإلى الأبد، على إيقاع انتصار الثورة المُظفَّر، باء بالخُذلان. ومن كان يأمل في أن تحرير مصر من «النظام»، سيؤدي إلى تحرير الإعلام أو تطهيره، على الأقلّ شاشات التلفزيون؛ الحكومية منها، والخاصة، وقع في الخيبة. عام مضى، ويليق بنا التوقّف، على رأسه، أمام ذاك الوثائقي الذي بثته قناة «الجزيرة» القطرية، بعنوان «صناعة الكذب»، بإخراج المصري شريف سعيد. بحث طويل (69 دقيقة)، ومداخلة تتقلّب على أكفّ علم الاجتماع وعلم النفس وفنون الاتصال ومدارس الإعلام، وتتخيّر من الأرشيف ما يدعم قولها، لتنتهي إلى أن لا «تطهير للإعلام» حصل، ولا نهاية للكذب وصناعته حدثت، تماماً إلى درجة لا يأنف معها الوثائقي من وصف الإعلام الحكومي، على الأقل، بأنه «عِرّة الإعلام»! المؤسف أن كلّ ما يسوقه «صناعة الكذب» من ممارسات، وهو يُحلّل ويناقش ويفضح الإعلام الحكومي في مصر، لا يكاد يبتعد عما يمكن أن يُقال بصدد الكثير من الشاشات المستقلة، والتلفزيونات الخاصة التي وصل بعضها إلى درجة الانحطاط، ولم يرتقِ فوق مستوى «قعدات» الثرثرة الفارغة، ومجالس «الردح» اللئيم. يصبُّ الوثائقي جام تحليلاته على حال التلفزيون المصري الرسمي، قبل الثورة وخلالها، التلفزيون ذاك الذي أمضى قرابة خمسين عاماً محكوماً بوزير الإعلام، الوجه الآخر لوزير الداخلية، والذي لا يتردّد في «صناعة الكذب»، وتسويقه، من دون أدنى رفّة جفن من خجل، ونبضة عرق في وجه من حياء. «استبق الأحداث. هوّل. هوّن. أفزعْهم. شتّت وشوّه. كن أنت الراوي الوحيد. استخدم العاطفة. اختلق وقائع ممسرحة. ضع ما تريد على ألسنة المشاهير. بدّل مواقعك حين تستشعر الخطر»، هي مروحة القواعد التي يضع الوثائقي يده عليها، عبر شخصياته المتعددة، فيُدعّم أقوالها، وينسج آراءها، في قطعة وثائقية، يمكن أن تبقى للتاريخ، فاضحةً لحقبة منه! ستقول أجيال مقبلة إنه ذات وقت، كان ثمة «جريمة إعلامية متكاملة الأركان»، ومع ذلك فإن «أجهزة فردية صغيرة، هزمت قلاع إعلام»!... وكنا سنقول ذلك الآن... لو أن زمن «صناعة الكذب» انطوى مع انتصار الثورة، منذ عام!