على رغم برودة الطقس غير المعتادة في عمّان، بعدما هبطت الحرارة إلى ثلاث درجات مئوية، تجمّع لفيف من محبي التصوير الفوتوغرافي والفن التشكيلي في افتتاح معرض «وسط البلد» للفنان العراقي محمد الشمّري. والمعرض، المستمر حتى 17 الشهر الجاري، تستضيفه قاعة «جاكاراندا إيمدجز» في منطقة الدوار الأول ضمن جبل عمّان، حيث أحد أعرق الأحياء وأقدمها في العاصمة الأردنية، وقد تحول خلال السنوات الأخيرة مقصداً للشباب والسيّاح، إذ تنتشر المقاهي على الأرصفة على طريقة شارع الحبيب بورقيبة في تونس. بدأت قصة المعرض بقدوم الشمري إلى عمّان عام 1991، فوجد حركته اللاإرادية تسوقه إلى منطقة «وسط البلد»، حيث غالباً ما يستقر مكتشفو المدينة الجدد على طاولات المقاهي الشعبية. وبالنسبة إلى الشمري، مثّل «السنترال» المطل على الشارع عصب المدينة، فركن إليه. كان ذلك في ظل الأوضاع في العراق التي قذفت بالشمري وبالآلاف أمثاله خارج بغداد هرباً من الحرب العاتية. وشاءت الأقدار أن يغادر الشمّري عمّان إلى هيوستن في ولاية تكساس ليعود مجدداً إلى عمّان بعد عشرين سنة، حيث انصرف إلى التعبير عن حنينه إلى أيامه الأولى فيها، وامتنانه للمدينة التي احتضنته مطلع تنقُّله بين المنافي. يكتفي الشمّري بمنطقة وسط البلد ليرصد تفصيلاتها بعدسته، فهنا «يلتقي الغرباء في بوتقة واحدة»، كما يقول، ويضيف: «ربما هناك حميمية في الأمكنة القديمة، جذبت أشخاصاً مثلي مرّوا من هنا، فالغرباء عادة يتجمعون في مكان معين في كل مدينة كأنهم يستدلون عليه بفعل عوامل الطرد العاطفي واللاإنتماء». ويذهب في أطروحته أبعد من ذلك: «حتى جثث هؤلاء تنجمع في مقبرة واحدة، كما في دمشق، فهناك مقبرة منشأة للغرباء فقط». وجاء المعرض صوراً فوتوغرافية، ائتلفت خطوطها وكتلها علامات ثقافية وحضارية، تتضمن جدراناً وأعمدةً رومانية وإسلامية، وصروحاً معمارية حديثة، تنشئ جميعها علاقات تحاورية، لا تخلو من إشارة إلى التشظي العمراني لجهة غياب الوحدة التشكيلية الواحدة في عمرانها، في دعوة إلى معاينة الدلالة الجمالية لتعدديتها الثقافية. إلا أن المناظر الملتقطة تنطوي فضاءاتها، في الوقت نفسه، على تناقضات المكان الواحد. فثمة دكان تُدار فيها «ماكينة» إبرة قديمة، يجاورها محل للألعاب الإلكترونية، وآخر لبيع القماش والملابس الشعبية، ثم مطعم راق... لتحكي كل هذه التفاصيل السيرة البصرية لأرصفة المدينة. لا تخلو اللوحات من حساسية تعبيرية، بطلها «الفضاء» الذي يغدو أسيراً في حدقتي الفنان الذي كمنَ له عند شرفة مقهاه المفضّل. لكن قلق المبدع لا يتوقف، وهذا ما يدفع الشمري إلى إحداث تعديلات على صوره الفوتوغرافية، بمزج الخامات وتقنية «الديجيتال» مع الرسم اليدوي. مزاجٌ مَلول حفّز الشمري على رؤية تفاصيل الفضاء الذي صوّره كما يحب، لا كما هو في الواقع. فيتبدّى أحياناً مشهداً هذيانياً، يجسده معمار فانتازي حالم مقيم في رأس الفنان الشمري. وذلك كرد فعل على وطأة الرؤية البصرية الواقعية ذات العلامات الخراسانية والرصاصية الباردة، وتأثيرها السلبي على فطرة الإنسان وروحه. وفي المعرض صورة تجسد شبّاكاً يكاد الصدأ يأكله، تتمايز بجواره آلة لخياطة الأحذية، من طرازٍ شاع في خمسينات القرن الفائت وتظهر كخردة وحيدة، وسط غياب صاحبها المدوّي، كأن أطروحة الصورة تقول إن المكان برمّته يتحول إلى مشهد مهمل ومنسيّ ومعرّض للصدأ، من دون ذات إنسانية. ويتلمس الرائي، في لوحة أخرى، ضربات فرشاة رعناء على قَسَمات المباني، كأنها رمال صحراوية تهجم على أرصفة المدينة، وهذا يقارب الفضاءات الأدبية لا سيما رواية الراحل مؤنس الرزاز «المقامات الرملية»، إذ يجتاح الرملُ في الرواية مباني المدينة وشوارعها، محدثاً فيها جغرافية مخالفة لواقعها الأيقوني. وتكشف لوحة من المعرض، ترتكز على صورة فوتوغرافية لعمارات محدودة يتوسطها مسجد، المكان الذي أدمن الشمّري الجلوس فيه، أي في الطابق الثاني من أحد المباني حيث «مقهى السنترال»، يراقب حركة الناس والمركبات والكتل والظلال. وتبرز اللوحات في كل مرة المكان والمشهد نفسه، إنما من زوايا مختلفة. والشمّري الذي لا ينسى، في كل صورة، أن يمارس فعل الشطب أو الكتابة أو إضافة الكتل إلى عمارة أو طابق، يبدو حريصاً على ألا تطاول تغييراتُه المسجد، ليكون بذلك العنصر الوحيد في اللوحة الذي تبقى ملامحه على حالها. وهو ما يشرحه الفنان بقوله ل «الحياة»: «المسجد يمثل حاله تطهّرية، لذا يجب أن يكون بمنأى عن المتغيرات». لا ينكر الشمّري نشوء ألفة بينه وبين الفضاء الاجتماعي ل «وسط البلد»: «ففي زيارتي الأخيرة رفض بائعون أخذ ثمن مشترياتي، لقد تذكروني، على رغم وقت غير قليل أمضيته بعيداً منهم. أصبحت عمّان مثل القاهرة، تجذب الزائر، نما الحب بيننا، وتعمّق في داخلي، يشدني بقوة إليها كلما ابتعدت عنها».