مع اقتراب نهاية العام الثالث عشر من عمر برنامج «خليك بالبيت» حيث أمضيت قرابة ثلث عمري في محاورة مئات المبدعين من جنسيات واتجاهات وأنماط مختلفة، أجدني مدفوعاً للإقرار بكامل قواي العقلية والجسدية ومع سبق الإصرار، أن تلك الحوارات باتت تشكل جزءاً لا يتجزأ من تكوين وعيي الانساني الفكري والثقافي ،إذ وضعتني طبيعة مهنتي قبالة قامات إبداعية باسقة ورمتني في جبِّ تجارب استثنائية ونادرة في الفكر والأدب والموسيقى والغناء والسينما والتلفزيون وسواها من ميادين الحياة، وكنت (ولا أزال) كلما جلست أمام ضيف من أولئك المتوهجين أعود «تلميذاً شاطراً» يسعى لاكتساب جملة جديدة أو حرف على الأقل من كتاب المعرفة الإنسانية الذي لا يغني عنه أي كتاب آخر. وأعني به الإنسان نفسه وما يختزنه من معارف وعلوم على مدى حياته الأرضية التي تظل قصيرة مهما طالت لكنها تختزن ما تعجز عنه أمهات الكتب وبطونها. أعترف أن ضيوفي هم أساتذتي الذين علموني ما هو أكثر من الحرف، ولا يتسع المجال هنا لاستحضار مئات الأسماء اللامعة ولكن، يحضرني الآن اسم البروفسور شارل العشي رئيس مختبر الدفع النفاث في وكالة «الناسا» المسؤول مباشرة عن الرحلات غير المأهولة الى الفضاء الخارجي، ومن بينها رحلة أول مركبة حطَّت على سطح المريخ، والذي يعمل تحت إدارته أكثر من خمسة آلاف عالم فضائي، يومها طرحت عليه سؤالاً عن مدى صعوبة عمله و «الانفصام» الذي قد يواجهه في التعامل مع الوقت بين المختبر والمنزل، ففي الأول يقاس الزمن بملايين السنين الضوئية وفي الثاني بالدقائق والثواني الأرضية؟! أذكر أن ضيفي الجليل باغتني بإجابة على شكل سؤال مفاده: هل قلت لي إنك تعد وتقدم هذا البرنامج منذ عشر سنين (كان يومها قد مضى عقد على بدئه)، وتقوم كل أسبوع بالبحث عن شخصية لمحاورتها وطرح الأسئلة عليها مثلما تفعل الآن؟ أجبته: نعم. فباغتني مجدداً بجملته التالية: شغلك أصعب من شغلي بكثير، وعلاقتي بالزمن أسهل من علاقتك به! طبعاً لم آخذ إجابته على محمل الجد إلا لجهة واحدة، هي سمة التواضع التي يتحلَّى بها كل مبدع حقيقي في تعامله مع نتاجه وفي النظرة الى نفسه. فمن شارل العشي وأمثاله تعلمت ألاّ أبجّل عملي وألاّ أدع صورتي في المرآة تتورم وتتضخّم، كما تعلمت أن الحب ليس نقيصةً ولا عيباً إذ سمحت لي الحلقات الحوارية المتعاقبة أسبوعياً ملاحظة أمرٍ بالغ الدلالة وهو أن معظم المبدعين يتحلّون الى جانب تواضعه بسمة اخرى هي الحب، حب الآخر أياً كان وأنّى كان موقعه أو انتماؤه، وليس شرطاً أن يعطّل هذا الحب الحس النقدي أو الرؤية النقدية في مقاربة الوجود والكائنات، بل لعلَّه يجعلها أكثر صدقاً وصدقية، لأنها إذا ذهبت في الاتجاه المعاكس للحب صارت هدماً وعدوانية. صعبة جداً الكتابة بصيغة المتكلَم من دون بروز «الأنا»، وكثيراً ما يتم الربط بين «الأنا» والإبداع، لكن «أنا» الإبداعية تختلف كثيراً عن «أنا» المرضية التي لا يخلو كائن منها، ولعل ترويضها هو عملية يومية على الواحد مناَ مزاولتها كالتمارين الرياضية كي لا تطغى الصورة المتورمة على أصلها، ولعل هذه الملاحظة تعنينا أولاً، وضمير الجماعة هنا يعود الى كل العاملين تحت الضوء (كل ضوء) وليس هناك وصفة أجدى وأنفع من الحب لترويض «الأنا» فبالبغضاء سهلة والكراهية تولد سريعة كالشرر والعالم مملوء بالأحقاد والضغائن. الحب صعب ونادر أحياناً، لكنه يحرر «الأنا» ويطهرها من أدرانها وآثامها لأنها متى تجلّت في مرآة الآخر تغدو أصفى وأنقى وتزداد سمواً وعلواً، وليس العكس كما يظن البعض خطأً. لا أزعم في ما أذهب اليه يقيناً أو جزماً ولا أجوبة قاطعة لأسئلة كثيرة في خلدي، بل رأياً يحتمل الخطأ، مثلما يحتمل الصواب، وهذه محاولة إجابة متأخرة على تواضع شارل العشي الذي تجلى بصيغة سؤال، طرح الأسئلة أكثر سهولة من إيجاد الأجوبة، نولد وفي عيوننا علامات الاستفهام وعلى شفاهنا الاسئلة، نكبر ونحيا ونموت ولا نحظى بأجوبة شافية لأسئلتنا الكثيرة، فهل يستوي من يطرح الاسئلة مع من يحاول مثلك العثور على أجوبة للانسانية جمعاء؟ ما يبدو أحياناً غير مترابط يكون غالباً أكثر ترابطاً مما نظن أو نخال، فالتواضع يقود الى الحب، والحب يضاعف التواضع، ولقد قيل «من لان عوده كثفت أغصانه»، ومن أحب هان عليه كل أمر. قال تشيخوف: «إذا كان في وسعك أن تحب ففي وسعك أن تفعل أيّ شيء».