لا يزال رئيس وزراء السودان السابق، رئيس حزب الأمة، الصادق الصديق المهدي، يثير جدلاً وسط السودانيين، خصوصاً مشايعيه في الحزب العتيق، منذ إصراره على دخول البرلمان قبل بلوغه السن القانونية للترشح في ستينات القرن الماضي، وتشبثه بتسنُّم رئاسة الحكومة، ما أدى إلى انشقاق الحزب إلى جناح يقوده هو، وآخر بقيادة عمه الراحل الهادي المهدي، واتَّسع نطاق الجدل حول شخصيته وقيادته في منتصف السبعينات، حين قرر بمبادرة فردية التصالح مع الرئيس الراحل جعفر نميري، الذي دأب على وصفه قبل الصلح وبعده ب «الكاذب الضلَِّيل». واعتلى سدة الحكم مرة ثانية في 1986 ليصيب الشعب وأنصار حزبه، بخيبة أمل شديدة، جراء عجزه عن الحكم الراشد، وضعفه وتردده بسبب حرصه على الترضيات والمجاملات العائلية، واصطفافه المخزي مع صهره زعيم الجبهة الإسلامية القومية حسن الترابي، التي أطاحت بحكومته المنتخبة في انقلاب «غفلة» انحدرت البلاد بسببه إلى وهدة لا تزال تقبع في غياهبها منذ منتصف العام 1989. وبالطبع، فإن المهدي (77 عاماً)، لا يزال ناشطاً في الحياة السياسية والاجتماعية نشاطاً يغبطه عليه الصغار، بيد أنه نشاط أثار قدراً أكبر من الجدل حول طبيعة تفكيره والحسابات التي يحدد بها مصالح حزبه. وهو جدل جعله محلَّ بُغض السودانيين قاطبة، خصوصاً أنصار حزبه، وهم يرون مؤسستهم العتيقة تتحول إلى حقيبة بيد مرافقي زعيم الحزب، وليس فيها مكتب يتسم بفاعلية وقدرة على اتخاذ قرار، إلا إذا كان على رأسه ابن المهدي وبناته. بل إن المهدي، مثلما فعل في 1977 حين عمد، من دون مشورة رفاقه في الجبهة المعارضة للرئيس الراحل نميري، إلى التصالح مع ذلك النظام العسكري، قرر منفرداً في 2011 أن يوعز لابنه البكر العقيد عبدالرحمن الصادق بأداء القَسَم مستشاراً للرئيس عمر البشير، وأصدر بياناً قال فيه، بمنتهى التذاكي و«الحرفنة»، إن ابنه اختار قبول عرض البشير منفرداً، وإن تعيينه لا يعني حزب الأمة في شيء! وهكذا عزز رئيس الوزراء السابق إمساكه بخيوط التفاهم مع العسكر، الذي يتدثر بثياب الإسلام المسيَّس بنجل ثانٍ في هرم السلطة، بعدما نجح في تعيين نجله الآخر بشرى ضابطاً في جهاز الأمن والمخابرات. قد لا تعني تلك التفاصيل شيئاً بالنسبة إلى غير المنتمين إلى حزب الأمة، بيد أنها ينبغي أن تُعاد قراءتها بشيء من التركيز، لأن مشاركة هذا الحزب الوطني العتيق في مسيرة التحرر من النظام العسكري العابث بالدين، حاسمة لنضال الشعب السوداني، وهي المشاركة التي تتعثَّر بسبب الارتباك والغضب اللذين تثيرهما تلك التفاصيل في نفوس أعضاء حزب الأمة وعقولهم، خصوصاً أن عقيدة الكثرة الغالبة منهم تنصرف إلى أن الانشقاق عن الحزب ليس خياراً ناجعاً، لأنهم هم وآباؤهم وأجدادهم الوقود الذي استخدم في بناء الحزب وهندسة نجاحاته في كل الانتخابات الديموقراطية التي شهدتها البلاد. ويعتقدون بأن الخيار الأمثل لمستقبل حزبهم أن يتخلى الصادق المهدي عن زعامته، وليس لديهم ثمة حَسَسٌ إن جاءت أي انتخابات داخلية بأي من أبناء المهدي أو بناته للعمل في مكاتب مؤسسة حزبية خالية من سيطرة الزعيم وهيمنة أسرته عليها. هذا الحراك الذي تتنادى له فروع حزب الأمة في المهجر وفي كردفان ودارفور، وهما من المعاقل التاريخية للحزب، يمثل امتداداً لكل المحاولات السابقة للفكاك من «أخطبوطية» الصادق المهدي وتحكُّمه في الهواء الديموقراطي الذي يتنفسه أعضاء حزبه، إذ إن الحزب العتيق تشظَّى إلى أحزاب صغيرة عدة، وعاد للهجرة منه المنشقون عنه الذين رأوا قبل نحو عام أن العودة إلى صفوفه أفضل لفرص مقاومة نظام المحفل الخماسي والإطاحة به، فقد فوجئوا ب «الساحر» وقد أعاد رسم كل الإستراتيجيات في ضوء مصلحته الكامنة في مشاركة نظام البشير الحكم، وإنْ مِنْ وراء واجهات وسُتُر. يستحق الصادق المهدي، الذي يسبق اسمه دوماً لقب «السيد»، أن يوصف بأنه صاحب أطول رقم قياسي في البقاء «كلاًّ مُعطَِّلاً» لحزب سياسي ظل ملايين من أعضائه يحلمون منذ الخمسينات بنظام ديموقراطي عادل ومنصف وعامل على تنمية حقيقية ونهضة جادة بالبلاد، الثرية بإمكاناتها الزراعية، وثرواتها الطبيعية، وعقولها النابغة، وعمالتها الماهرة. وكلما فاتحوه بمطامحهم من خلال مذكراتهم ومؤتمراتهم، فاجأهم بحيلة تسويفية جديدة، وكلما تطلعوا لزعامة شجاعة تتولى قيادة الزحف الجماهيري صوب ميدان القصر الجمهوري، كسفهم افتضاح سعيه إلى إبقاء النظام، والتمسُّك العبثي بما يسميه «الأجندة الوطنية»، وتفاوضه سراً على صفقات المناصب والوظائف لأبنائه، والانسحاب من الكيانات الحزبية التي تعاهدت على إسقاط النظام بعدما يئست من إمكان انصلاحه أو إصلاحه على مدى 23 عاماً. قد يكون محقاً القائل بأن إذكاء نار المعركة بين رجال حزب الأمة ونسائه وبين زعيمهم سيعطي فرصة لنظام البشير لشراء مزيد من الوقت وطول البقاء. وقد يكون مصيباً من يرى أن لا طائل من مشاركة حزب الأمة في المعركة الدموية المقبلة، لأن جماهيره تصلي بلسان وزعيمه يُغَنَِّي بلسان، ولكن من المؤكد أن الحقََّ، كلَّ الحق، يتمثل في أن تلك المعركة هي معركة السودانيين قاطبة، من كل الفئات، مُحازبين ومستقلين ومتفرجين سلبيين، لأنها ستُفْرِزُ أسس النظام الحر العادل الديموقراطي، الذي ظللنا ننشده مذ خرجت جموعنا هادرة في شارع القصر في 1964 و1986 لإزاحة نظامين عسكريين لم يكونا أقل عتواً بمقاييس العصر الحاضر. ولعلَّ الصادق المهدي، المعروف بحصافته في قراءة التاريخ والتنبؤ بالمستقبل، يدرك أن أخطر ما يواجهه داخل حزبه الغضبة الكبرى التي تهدده بخسارة مؤيديه في إقليم كردفان، الذين يبدو أنهم ماضون إلى تمرُّد مسلح ضد النظام لن يعودوا بعده قط إلى حظيرة «حزب السيِّد»، وبذلك يفقد الزعيم المخضرم معقله الأكبر، بعدما فقد المعقل التاريخي للحزب في إقليم دارفور، الذي التحق مشايعوه فيه بالحركات المسلحة، التي أعلنت رفضها محاورة النظام، وأكدت عزمها على غزو العاصمة السودانية للقضاء عليه. وإذا دخل المسلحون الخرطوم فستكون نهاية زعيم حزب الأمة، الذي تولى رئاسة الحكومة مرتين ولم يُنْجِز شيئاً، وتولى زعامة حزبه منذ منتصف ستينات القرن الماضي ولم يفتح نافذة للديموقراطية داخله. أنقذ نفسك أيها «الحبيب الإمام» لأن أبناءك وبناتك لن يجدوا بعدك حزباً يتسع لأي منهم، ولن تبقى هالة «قداسة» توسِّع لهم مظلة الهيمنة على الحزب والشعب. * صحافي من أسرة «الحياة»