الثقافة البولندية بعيدة عنا بعض الشيء.. لذا عندما نجد في بولندا من يهتم بثقافتنا ويرى فيها منابع من نور نفرح به ونحاول أن نقترب منه ونتعرف عليه أكثر.. البروفيسورة أنّا بارزيميس Anna Parzymies، سيدة بولندية ذات اهتمام واسع بالنشر وعوالمه.. قرأت جملة في كتاب عن مفكر مسيحي من القرن التاسع، ذكر فيه أنه زار الشرق، وقابل علماء مسلمين واسعي العلم والمعرفة في العصر العباسي، فأقبلت على الثقافة العربية والإسلامية، منذ سنوات طويلة، ولم تتوقف حتى الآن عن الانبهار بهذه الثقافة، ولذلك تعيش معها ومن أجلها. تشير في حوارها مع «الحياة» إلى أن الوجود الإسلامي في بولندا، بدأ قبل ستة قرون مع قدوم التتار المسلمين الذين اندمجوا في المجتمع، وتحدثوا اللغة البولندية، لكنهم حافظوا على هويتهم الإسلامية، ورغم أن نسبتهم تقل عن 1 في المئة من السكان، إلا أن الدولة اعترفت بهم، ووفرت لهم المساجد، ووصل بعضهم إلى طبقة النبلاء، وتوضح أن الاعتراض على بناء مسجد في العاصمة وارسو، لم يكن له علاقة بالخوف من الإسلام أو كراهيته، بل بسبب خوف السكان في المنطقة المحيطة من الأذان وقت الفجر، ولذلك طالبوا بتغيير موقع بناء المسجد فقط. وتؤكد أنّا أن مجموعة من الأكاديميين البولنديين قاموا بإعداد دراسات مستفيضة عن الإرهاب والإسلام، وتأكد لهم عدم وجود أي موضع في القرآن، يؤيد الفكر الإرهابي، وتوصلوا إلى أن هذه المزاعم خاطئة من وجهة النظر العلمية. وتطالب الدول العربية بأن تهتم بهذا الجانب، من خلال تقديم الدعم لترجمة الكتب ونشرها باللغة البولندية، لرسم صورة حقيقية عن أنفسهم، بدلاً من أن يقوم الآخرون بتشويهها، ويصعب بعد ذلك تصحيحها، وتقول بصراحة إنها تشعر أن الدول العربية ليست حريصة على العلاقات الثقافية مع بلادها، وتأسف لذلك، وتتهم الحكومات والسفارات العربية أنها لا تقوم بأي جهد في هذا الجانب... فإلى تفاصيل الحوار: أنت متخصصة في دراسة أوضاع المسلمين في الغرب، فما المبرر وراء اعتبارهم خطراً على أوروبا، رغم أن غالبيتهم العظمى مندمجة وتدين بالولاء لأوطانهم الجديدة؟ - إن اعتبار المسلمين خطراً في الغرب، أمر حديث عهد في القرن العشرين، ولم يحدث منذ زمن بعيد، وإذا استبعدنا فترات الحروب، فإن المسلمين لم يكونوا مصدر قلق للغرب من قبل... ... كنت أعتقد دوماً أن النظرة السلبية للمسلمين قديمة، وتكفي نصوص مارتين لوثر لمعرفة ذلك، والحديث الدائم عن (خطر الأتراك) على أوروبا المسيحية، أليس كذلك؟ - لا أريد أن أعود إلى هذه الحقبة الزمنية القديمة، أقصد فترة الإمبراطورية البيزنطية، لأنه كان بديهياً اعتبار المسلمين خطراً، بعد أن سقطت نصف أراضي هذه الإمبراطورية في يد العثمانيين، في نهاية القرن ال15، أعتقد أنه من الأفضل أن نركز على العصر الحديث. الإسلام في بولندا حسناً... في السنوات القليلة الماضية قامت في بولندا مظاهرات ضد بناء مسجد في وارسو.. لماذا؟ - الأمر هنا لا علاقة له باعتبار المسلمين خطراً على بولندا، لأنهم فعلاً ليسوا كذلك، هل تعلم أن المسلمين كانوا جزءاً من الارستقراطية البولندية، لأنهم كانوا يحاربون في صف الجيش البولندي، وهو الأمر الذي يتضح في أزياء النبلاء البولنديين، والتي لها جذور شرقية، أتكلم هنا عن فترة القرنين ال17 وال18 الميلاديين، حينما كان المسلمون يحملون ألقاب النبلاء. أما حكاية المسجد التي أشرت إليها، وسبب التظاهر ضده بنائه، فليس للأمر علاقة بأنه مسجد، ولو كانت كنيسة ستدق أجراسها في الخامسة فجراً، لتظاهر السكان ضدها، لذلك فإن الأمر لا علاقة له بالدين، بل بالضوضاء التي يمكن أن تنجم عن وجود هذا المبنى أو ذاك، لقد أصبح البولنديون يسافرون لقضاء العطلات في مصر وتونس، وهناك يسمعون أذان الفجر، فيخافون أن ينتقل هذا الأمر إلى بلادهم. أنت عشت سنوات في فرنسا، وتعرفين الجالية المسلمة هناك، فهل هناك فرق بين المسلمين في فرنسا والمسلمين في بولندا؟ ولماذا أصبح المسلمون في فرنسا جزءاً متأصلاً في المجتمع، في حين ما زال المسلمون في بولندا غرباء في وطنهم الجديد؟ - في الحقيقة الوضع لا يختلف كثيراً، في فرنسا جلب الاستعمار الفرنسي معه أشخاصاً من المغرب العربي، وبقوا هناك حتى أصبحت لهم جذور عميقة، وكذلك الحال في بولندا، جاء التتار إلى بلادنا قبل ستة قرون، واندمجوا في مجتمعنا، ولولا الملامح التتارية على الشخص، لما استطاع أحد أن يفرق بين المواطن من أصل بولندي أو من أصل تتاري، والدين عندنا مسألة خاصة، ولا يسأل أحد الآخر عن ديانته. لكن لا بد أن أشير إلى أن المسلمين المغاربة في فرنسا احتفظوا بلغتهم العربية، لكن المسلمين التتار اكتسبوا اللغة والثقافة البولندية، وانصهروا في المجتمع، مع الاحتفاظ بدينهم. كيف يتناول الإعلام المسلمين في بولندا...هل هي تقارير موضوعية أم متحيزة ضدهم؟ - التقارير الإعلامية البولندية لا تركز على الرؤية الدينية للأحداث، الإعلام يتناول هناك تطورات الثورات العربية، بعيداً عن المنطلق الديني، مع العلم بأن المنطقة العربية والإسلامية، لا تشغل حيزاً كبيراً من اهتمام الإعلام البولندي. وأؤكد لك أن الصحفيين في بلادنا ليسوا ضد الإسلام، لأن المسلمين هنا جزء من المجتمع، هم ليسوا عالة على المجتمع، يحصلون على إعانات البطالة، وليسوا عمالاً بسطاء، بل هم أساتذة جامعات وأطباء. الظاهرة الموجودة في بعض دول أوروبا الغربية من عيش المهاجر المسلم عالة على كاهل الدولة، من خلال حصوله على المساعدات الاجتماعية، ليست موجودة في بولندا أبداً. ما دام الإعلام البولندي ليس متحيزاً وموضوعياً، فكيف يتناول المملكة العربية السعودية؟ - هناك اتجاهان رئيسيان في تناول المملكة في الإعلام البولندي، الأول إيجابي للغاية، وهو خط عريض بدأ منذ أمر الملك عبدالله بن عبدالعزيز بعلاج الطفلتين التوأم السيامي، وهو الأمر الذي حظي بصدى كبير، حتى إن إحدى مدارس بولندا تحمل اسم خادم الحرمين الشريفين، ودائماً يتكرر الحديث عن الطفلتين، وما غمرهما به الملك عبدالله من دفء مشاعره ووده البالغ، خصوصاً أن الذي أجرى العملية طبيب سعودي. فالأمر لم يتعلق فقط بدفع الأموال، كما هي الصورة السائدة، بل بالخبرة الطبية العالية أيضاً. لكن الصدق يقتضي ذكر الجانب الآخر من التقارير الإعلامية، والتي تشير إلى الأصول السعودية لزعيم تنظيم القاعدة ومؤسسها أسامة بن لادن. الإسلام والإرهاب أصدرت كتاب «الإسلام والإرهاب» في عام 2003، وحظي باهتمام كبير في بولندا، فهل فكرت في ترجمته إلى اللغة العربية؟ - لم أفكر في هذا الأمر، لأنني ببساطة لم أتلق أي عرض بهذا الخصوص، لكن إذا توفرت الفرصة لتمويل ترجمة الكتاب وإصداره باللغة العربية، فإنني أرحب بذلك، مع التنبيه على أنه كتاب يعتمد على الأسلوب العلمي، ومتخصص في علوم اللاهوت، وتوصل العلماء المشاركون في كتابته إلى عدم إمكان الربط بين الإسلام والإرهاب، إنني أرى أن الولاياتالمتحدة الأميركية هي التي قامت بانتهاج سياسات استفزازية تجاه العالم العربي والإسلامي، ما تسبب في وقوع العمليات الإرهابية. قمت بإنشاء دار نشر متخصصة في الحوار خاصة مع العالم الإسلامي، وأصدرت نحو 200 كتاب، وكنت صاحبة مبادرة إنشاء قسم لدراسات الإسلام في أوروبا بجامعة وارسو. ما الذي دفعك للقيام بكل ذلك؟ - عندما حدثت تغييرات في بولندا، بعد الحكم الشيوعي، انهارت دور النشر الكبيرة التي كانت تقدم لها السلطات الدعم، لنشر الكتب التي تتفق مع توجهاتها، وبعد إفلاسها وزوالها من الوجود، ظهرت فجوة في سوق الكتاب، وقررت أن أتنازل عن رئاسة قسم علوم الاستشراق، وأن أتجه نحو النشر، مع التخصص في نشر الكتب الإسلامية والاستشراقية. وكان أول كتاب نشرته دار نشر «الحوار»، عبارة عن كتاب تعليمي لطلاب الفصول الدراسية الأولى بعنوان «في الغابة»، وكانت التقنيات غير متوافرة، وكتبه صديق بخط اليد، ثم طلب الأساتذة في القسم نشر أعمالهم التي كتبوها، ولم يتمكنوا من نشرها، وبدأ العمل الشاق، والذي كان أصعب ما فيه هو البحث عن ممولين، ينفقون على إصدار هذه الكتب، لأنه من غير الممكن أن يدفع المرء كل التكاليف من جيبه الخاص. هل حصلت على دعم من العالم العربي أو الإسلامي لتمويل كلالجهود التي قمت بها؟ - لم يكن هناك أي دعم في أمور النشر والطباعة من أي دولة عربية، وغالب الدعم الذي كنت أحصل عليه، جاء من وزارة التعليم البولندية، علاوة على الدعم الذي تقدمه وزارتا الثقافة والخارجية في فرنسا. هل معنى ذلك أن فرنسا هي من يدعم التعريف بالثقافة العربية والديانة الإسلامية في بولندا؟ - نعم هي من يدعمنا في نشر الكتب عن الإسلام في بولندا، لكننا نختار الكتاب الذي يلائمنا، ويتفق مع الأوضاع في بلادنا. هل صحيح أن المسلمين في الغرب، يكونون أكثر تشدداً منهم في الدول الإسلامية، لخوفهم من ضياع هويتهم وهوية أطفالهم؟ - هناك جزء من المهاجرين يفضلون العزلة، ويعيشون متقوقعين في «جيتو»، ويقولون إنهم يريدون الحفاظ على القيم والتقاليد التي جاءوا بها من بلادهم، ويتمسكون بها بشدة خوفاً من فقدانها، لكن هناك جزءاً آخر يندمج في المجتمع الغربي الذي يعيشون فيه، من دون فقدان هويتهم الإسلامية، من غير تشدد، لذلك لا يمكن التعميم. يرى البعض أن من يتولى الخطابة ورئاسة الجمعيات والاتحادات الإسلامية في الغرب أشخاص غير مؤهلين دينياً، وتحاول دول أوروبية إقامة كليات لإعداد الخطباء في الغرب. كيف تقيّمين هذه التجربة؟ وما رأيك في البديل المتمثل في إعدادهم في دول إسلامية مثل المملكة أو مصر؟ - من خلال تجربتي الشخصية، لم أشعر بأن غالبية الخطباء في مساجد أوروبا بالصورة التي نقلتها، بل كثير منهم مدركون للأوضاع جيداً، لقد تحدثت معهم وتوصلت إلى هذا الحكم. أما بالنسبة إلى إرسال أئمة للتعلم في الخارج، فلابد أن نتساءل عن نتيجة هذه الخطوة، وما عواقب تعلم الدين في وسط مختلف عن المحيط الأوروبي الذي سيعود الشخص للعمل فيه، أو استقدام خطباء من الخارج، لا يعرفون شيئاً عن الحياة هنا، هناك معهد لإعداد الأئمة والخطباء في فرنسا، وهذا أمر جيد. الهجوم الثقافي الكتب التي تتناول الإسلام في الغرب غالبيتها سطحية وغوغائية، مثل قصص إجبار الفتيات المسلمات على الزواج، أو على ارتداء الحجاب أو النقاب، أو قتل فتيات ارتبطن عاطفياً بأوروبيين غير مسلمين، فهل الدافع لذلك هو رغبة دار النشر في الربح، أم أن هناك رغبة في تشويه صورة الإسلام والمسلمين؟ - نحن لا نطبع هذا النوع من الكتب، ولذلك وضعنا المالي صعب، ولو كنا طبعنا مثل هذه الكتب لحققنا مكاسب مالية كبيرة، لكن هذا الأمر غير مطروح لدينا على الإطلاق، بل إننا نوصي الجهات التي تستشيرنا بعدم نشر مثل هذه الكتب، لأنها تتعلق بالقيم الدينية والأخلاقية. ولكني أود التأكيد على أن من يفعل ذلك يقصد الربح المادي فقط، ولا علاقة للأمر بنظرية المؤامرة ضد المسلمين. ما الذي يمكن أن يقوم به العرب والمسلمون لنشر الصورة الحقيقية لهم ولدينهم؟ - هناك أمر مهم ينبغي الانتباه له، وهو أن الشعب البولندي والشعوب التي كانت تحت الحكم الشيوعي، لم يكن لديها هوايات لوقت الفراغ إلا القراءة، وكان الناس يقرأون كل ما يقع في أيديهم، وتطورت لديهم القدرة على التفرقة بين الغث والسمين، فيقبلون على الكتاب الجيد، ويتخلصون من الكتاب السيئ. إن خطأ السفارات والحكومات العربية، أنها لا تأخذ ذلك في الاعتبار، وتترك أطرافاً أخرى تضخ الأموال وعمل الدعاية للأفكار التي ترغب في نشرها بسهولة، ويصعب بعد ذلك على الطرف الآخر تصحيح صورته، التي تترسخ من خلال المطبوعات الكثيرة، ولو قام العرب والمسلمون من الآن بالأخذ بزمام المبادرة، وطباعة كتب عنهم باللغة البولندية، فإنهم هم من سيرسم صورتهم، وليس غيرهم. وماذا تفعل دار نشر «حوار» في هذا المجال؟ - نقوم في إطار إمكاناتنا المحدودة بنشر عشرات الكتب، ولكن الأمر لا يتوقف عند ذلك، أريد أن أذكر لك أنني ألقيت مرة محاضرة عن الخلط بين الإسلام والإرهاب، وجاء جمهور ضخم جداً، لم تسعهم القاعة والممرات المحيطة بها، واضطررنا لاستخدام ميكروفونات، وكان من بين الحضور صحفيون وأطباء جاءوا من مدن بعيدة، وبعد المحاضرة قالت لي طبيبة، إنها قرأت أعمال نجيب محفوظ وغيره من الأدباء العرب، وكانت تشعر بتناقض صارخ بين ما تعرفه عن هذه الشعوب، وما تنشره بعض وسائل الإعلام الغربية عنهم. ولذلك فإن محاضرتي التي أكدت كذب الافتراءات على المسلمين، جعلتها تعرف الحقيقة. أريد أن أقولها بوضوح: لا بد أن تقوم السفارات والحكومات العربية بالتركيز على الأنشطة الثقافية، وألا يسمحوا للمستعمرين الجدد بالقيام بنشر أفكار سلبية عنهم. هل هناك اتفاقات تعاون أكاديمي بين جامعة وارسو والجامعات السعودية؟ لا توجد أي اتفاقات رسمية بين الجانبين. لكن بولندا تستقبل سنوياً نحو مئة مبتعث سعودي لدراسة الطب في جامعات بولندية من بينها جامعة وارسو؟ لا بد أن أوضح أن الجامعة الطبية في وارسو، لا علاقة لها بجامعة وارسو، بل هي جامعة مستقلة عن جامعتنا. وفي اعتقادي أن التعاون في العلوم الإنسانية والاجتماعية مهم للغاية، لأنه سينعكس على الجانب الثقافي. في الماضي كنا نرتبط بعلاقات مع دول مثل سورية ومصر والمغرب العربي، وكنا نشارك في المؤتمرات التي تقام عندهم، وما زالت الجزائر مستمرة في هذا التعاون. بالنسبة للجانب السعودي، فإن بعض أساتذة الجامعة جاءوا للمشاركة مثلاً في مؤتمر أقمناه في مطلع تشرين الأول (أكتوبر) في مدينة كراكوفا، ولكن بغض النظر عن ذلك عندنا بصراحة انطباع بأن الجهات السعودية ليست مهتمة بتطوير العلاقات الثقافية مع بولندا. ألا يعبر ابتعاث كثير من الطلاب السعوديين إلى بولندا عن رغبة المملكة في تعزيز العلاقة بين الشعبين؟ وهل تعتقدين أن هؤلاء الطلاب سيؤثرون إيجاباً في صورة المملكة في بولندا؟ نعم، لكن هؤلاء الطلاب المبتعثين يدرسون الطب أو الهندسة أو الحاسب الآلي، وتكون دراستهم باللغة الإنكليزية، ولذلك علاقتهم محدودة باللغة البولندية، ولا يحتكّون بالثقافة البولندية، يقيم المبتعث صداقات مع 3 إلى 4 أشخاص، ويتعرف على عشرات البولنديين، ثم يعود إلى المملكة، وربما يتحدث بصورة إيجابية عن بولندا، ولكن كل ذلك ليس كافياً لتعزيز العلاقات الثقافية بين بلدينا، ربما يكون مجرد نقطة بداية، الأهم من ذلك هو معرفة أن التواصل الثقافي يتم عن طريق الكتب. التمويل يعوقنا ألا يشكل التواصل الإنساني أيضاً جسراً مهماً للعلاقة بين الجانبين؟ - طبعاً التواصل الإنساني مهم، لكنه في حالة الابتعاث كما قلت لك يكون محدوداً، بسبب الدراسة باللغة الإنكليزية، واسمح لي أن أعرض لك مثالاً، يوضح ما ذكرته من عدم الاهتمام بالجانب الثقافي. إحدى طالبات قسم اللغة العربية والعلوم الإسلامية بجامعة وارسو، تزوجت شخصاً سعودياً، واعتنقت الديانة الإسلامية، وبدأت في ترجمة الأحاديث النبوية، وأرسلت إلى دار نشر «حوار»، تسأل عن إمكان نشر كتاب عن الأحاديث، فأبلغتها بترحيبي بذلك، بشرط أن تجد في المملكة من يقوم بتمويل الترجمة، لعدم قدرة الدار على ذلك، فخاطبت هذه السيدة جهات سعودية كثيرة، ولكن كل ما حصلت عليه كان عبارة عن إجابات بالرفض، وهو أمر مؤسف لأننا عندما أصدرنا ترجمة المصحف باللغة البولندية، اشتراه كثيرون، وما زال الإقبال عليه كبيراً. ألم تكن هناك ترجمة للقرآن إلى اللغة البولندية قبل ذلك؟ - كانت هذه أول ترجمة مباشرة للقرآن، أي من اللغة العربية إلى اللغة البولندية من دون لغة وسيطة، على عكس الترجمة التي صدرت في القرن ال19، والتي قام بإعدادها مسلمون من التتار البولنديين، ولكنها كانت ترجمة من اللغة الفرنسية. وهنا أيضاً أنبه إلى أن ترجمة القرآن إلى اللغة البولندية التي قمنا بنشرها، يستخدمها أيضاً مواطنو الدول المجاورة مثل التشيك ولتوانيا بل وروسيا، لأنهم يستطيعون قراءة اللغة البولندية، ولذلك فإن فائدتها كبيرة لهؤلاء السكان الذين لا يجدون ترجمة للقرآن في لغتهم الأم. هل معنى ذلك أنَّ كتبكم لا يقتصر انتشارها على بولندا؟ - طبعاً لا، والدليل على ذلك أننا عندما أصدرنا كتاباً للصحفيين بعنوان «لا تخافوا من الإسلام»، وهو الكتاب الذي حصل على جائزة الاتحاد الإعلامي الكاثوليكي الدولي للحوار بين الأديان، وجدنا زملاء لنا في أقسام علوم الاستشراق في تشيكيا وسلوفاكيا يستخدمون نفس الكتاب في جامعاتهم، لأنهم لم يجدوا أي مراجع عن هذا الموضوع في لغتهم. بصراحة ما أجمل ما وجدتيه في الإسلام، وما أكثر الأشياء صعوبة بالنسبة للإنسان الغربي؟ - في الحقيقة أنا لم أفكر أبداً في هذا الأمر أو بهذه الطريقة، ربما لأننا - نحن الأكاديميين - نفكر بطريقة علمية، ولذلك فإنني أود أن أشرح لك ما دفعني للاهتمام بالإسلام: عندما درست اللغات السلافية، قرأت كتاباً بعنوان «حياة سانت قسطنطين»، وهو مفكر مسيحي كبير، أسهم في وضع الأبجدية الكيرلية، وعاش في القرن التاسع الميلادي، سافر إلى العالم العربي، ونقل الكتاب عنه قوله إنه قابل علماء مسلمين في الدولة العباسية، وكانوا مثقفين جداً وعلى قدر كبير من العلم والمعرفة. وعندما قرأت هذه الجملة في كتاب ينقل شهادة عالم مسيحي، فإن ذلك جذبني للاهتمام بالعالم العربي في العصر العباسي، وانطلقت من هذه النقطة لأقرأ كل ما أستطيع الحصول عليه عن الإسلام، وهو اهتمام لا أستطيع التوقف عنه منذ ذلك الحين. أدت حادثة 11 ايلول سبتمبر إلى الاهتمام بالعالم الإسلامي، ولكنه اهتمام مشوب بالريبة بل والكراهية، فهل انتهت هذه الموجة في ظل الربيع العربي؟ - ما يحدث في العالم العربي حالياً مهم جداً، ومن المؤكد أن هذه الأحداث ستؤدي إلى تغيير في زاوية الاهتمام، وسيركز المهتمون من السياسيين والإعلاميين على الأبعاد السياسية أكثر من الأبعاد الإسلامية، لكن بالنسبة لبولندا فإن أحداث ال11 من سبتمبر بدأت تزول من الأذهان، فقد مرت عليها سنوات طويلة، وغطت عليها أحداث أهم بالنسبة لنا، مثل مشاركة القوات البولندية في الحرب في العراق، ومصرع بعض الجنود البولنديين هناك. لقد مرت سنوات طويلة من القلق، ولذلك فإنه من المحتمل أن يكون الاهتمام الآن على الأمل. الربيع العربي وما مشاركة دار نشر «حوار» في أحداث العالم العربي؟ - في هذه الأيام أصدرنا كتاباً بعنوان «المائدة المستديرة العربية»، وهو كتاب يتناول التغيرات التي شهدتها بولندا في التحول من النظام الشيوعي إلى الوضع الحالي، لأننا نعتقد بأهمية تقديم النموذج البولندي عن التغيير بطريقة سلمية، للتعرف عليه. وفي بداية الكتاب وردت كلمة للرئيس البولندي برونيسواف كوموروفسكي، يوضح فيها أسباب نجاح التجربة البولندية من خلال الجلوس على المائدة المستديرة بين جميع الأطراف، مع تشديده على ضرورة «كبح رغبات الانتقام من الخصوم السياسيين السابقين». مع التنبيه إلى أن الناس هنا تأثروا بمشهد قتل معمر القذافي، ورأوا أن الضحايا العراقيين في فترة الحرب على العراق، أكثر من عدد الضحايا الذين فقدوا حياتهم طوال فترة حكم صدام حسين. هل لا بد للناشر أن ينقل الثقافة أم يصنعها؟ - أنا لا أصنع الثقافة، أنا أنقلها فقط، أنا أتيح الفرصة للناس للتعرف عليها، وأساعد الناس في الاطلاع على الثقافات الأخرى. ما الكتب التي تلقى رواجاً أكثر في العالم؟ - لا أستطيع أن أتحدث عن العالم، دعني أحدثك عن أكثر الكتب التي أصدرتها دار نشر «حوار» رواجاً في المكتبات البولندية، وهو كتاب «المخاوف الرئيسية من الإسلام» من تأليف البروفيسور يانوفزسكي، وقد صدر هذا الكتاب قبل ستة أعوام، وفي كل عام تصدر منه طبعة جديدة، لأن الإقبال عليه لم يتوقف، وفي رأيي أنه فعلاً كتاب جيد، يستحق هذا الاهتمام. الأديان الثلاثة كيف تقرئين تفاعل الجامعات الأوروبية مع تطوراتها؟ - نظراً لأننا مجتمع مسيحي، فإن لدينا جامعات متخصصة في دراسة الديانة المسيحية، أقصد علم اللاهوت المسيحي، وكل ما له علاقة بذلك من تطورات، كذلك هناك اهتمام كبير بالديانة اليهودية، لأنها الديانة السابقة للديانة المسيحية، مع العلم بأن هناك قسماً أيضاً للدراسات العبرية في كلية الدراسات الشرقية بجامعة وارسو، وتوجد كليات تدرس الأديان الأخرى مثل البوذية. الجاليات الإسلامية في أوروبا هل لا تزال غريبة على النسيج الأوروبي؟ - كما أشرت من قبل نحن لا نعتبر مثلاً التتار المسلمين غرباء على المجتمع البولندي، وحتى المهاجرين من ذوي الأصولية المغاربية الموجودين في فرنسا، بعضهم مندمج في المجتمع، مع الحفاظ على هويته الدينية، والبعض الآخر يفضل العزلة والانفصال عن المجتمع، لأنه متشدد في تمسكه بالتقاليد والقيم التي تسود في وطنه الأصلي، لذلك لا يمكن التعميم. الثقافة السعودية ماذا ينقصها؟ - الثقافة السعودية غير معروفة بشكل جيد في بولندا، غالب المعلومات المنتشرة لها علاقة بالتاريخ الإسلامي، وهناك تركيز على فهم الإمام محمد بن عبدالوهاب للإسلام، أو ما يعرف باسم «الوهابية»... ... معذرة، أنا أقصد المؤلفين والشعراء والأدباء! - أعرف ما تقصده، لكن ليس معروفاً عندنا في بولندا أحد غير محمد بن عبدالوهاب. التعاون الثقافي التعاون الثقافي بين الدول هل يحتاج لقرار سياسي؟ - كما ذكرت لك بصراحة، إننا نشعر أن السعودية ليست مهتمة بنشر ثقافتها في أوروبا عموماً، وفي بولندا بصورة خاصة، لأننا لو قارناها بدول محدودة الإمكانات جداً مثل بلغاريا أو مقدونيا، نجد أن الأخيرتين على استعداد لدفع الأموال للتعريف بثقافتها، وهذه هي المشكلة التي تتعلق بكثير من الدول العربية، لذلك على السعوديين أن يولوا مزيداً من الاهتمام لهذا الأمر، عليهم أن يكونوا هم أصحاب المبادرة، ولسنا نحن. لماذا ينظر المثقف الأوروبي للمجتمع السعودي بهيبة وتزمت؟ - المثقف البولندي لا يعرف عن المجتمع السعودي شيئاً، ولا عن الثقافة السعودية، ربما يشعر بعضهم بالقلق بسبب بعض السياسات، وبعض الأمور مثل التأثير الوهابي. انهيار جدار برلين هل أثَّر في ثقافة أوروبا الشرقية؟ - المشكلة هي أننا كأشخاص بولنديين، لا نرى أن انهيار برلين كان هو الحدث الأبرز والأهم في هذا الإطار، بل نعتقد أن التطورات والتغيرات التي شهدناها في بلادنا، كانت أسبق تاريخياً من انهيار سور برلين، أعرف أن الألمان يعتقدون بأهمية الحدث في بلادهم. ولكن الأهم هو أن إجراء أول انتخابات حرة في المعسكر الشيوعي بأكمله، جرت في بلادنا، كانت في بولندا وليس في ألمانيا. عموماً أعود لسؤالك حول تأثير الانفتاح على الغرب في ثقافتنا، وأشير إلى أن هناك كثيرين يرون أن التغيرات التي طرأت كانت سلبية على ثقافتنا، لأننا كنا نتمتع بثقافة محلية لها خصوصياتها، كان عندنا محطتان للتلفاز فقط، فكان الناس يقرأون كثيراً، ويذهبون إلى المسرح، أما الآن فهناك مئات المحطات، وحصل غزو للأفلام الأميركية وموسيقى البوب، لذلك يتحدث بعض الناس عندنا عن „الاستعمار الثقافي الجديد“. في ظل التقنيات الحديثة، ما مستقبل الكتاب الورقي؟ - أعتقد أن الإنترنت سيكون في النهاية هو الرابح، وستكون له الغلبة على الكتاب الورقي، لكن ذلك لن يحدث في حياتي ولا في حياتك، بل سيستغرق الأمر أطول من ذلك. أنّا بارزيميس... ودار «حوار » سيرة ذاتية...