في رده على مشروع الجامعة العربية الجديد، قال وليد المعلم إن روسيا لا يمكن أن توافق على التدخل الخارجي في الشؤون السورية، معتبراً هذا خطاً أحمر (روسياً)، وواصفاً موقف هذه الأخيرة ب «الحار». وتمثل هذه التصريحات قبولاً سورياً صريحاً بالاحتماء بروسيا، التي أرسلت في شكل علني، لمرتين على الأقل في الأسابيع الأخيرة، قطعاً من أسطولها البحري للرسو في ميناء طرطوس. كما أنها، وبعلنية مماثلة، سلمت شحنات أسلحة إلى سورية وقبلت ببيعها طائرات عسكرية جديدة. ولكن روسيا، من جهة أخرى، تمارس نشاطاً عالي الوتيرة لإحداث توافق دولي على ما تسميه حلاً سياسياً وديبلوماسياً للأزمة السورية يستند إلى «الحوار الوطني الشامل» بين السلطة والمعارضة «لبناء سورية الجديدة». وهي تقصد بهذه الأخيرة تلك التي «قد لا ترغب بالتوجه إلى دمشق لخوض مثل هذا الحوار»، فتقترح موسكو استضافته، وإلا فهي تشير بكل أريحية إلى إمكان عقده في مصر أو تركيا. وعلى صعيد آخر، أجرت موسكو هذا الأسبوع محادثات مع واشنطن (حيث التقى المسؤولون الروس بفيلتمان وهوف)، وكذلك مع أنقرة والجزائر. وتضع روسيا ذلك كله في بند تأييدها لأية «خطوات بناءة»، وفق وزير خارجيتها، ما يقابله رفضها لأي إكراه عقابي أو عسكري. ومن الملفت أن روسيا تشير إلى دول البريكس الأربع الأخرى، وضرورة إشراكها في البحث عن الحلول، منصِّبة هذا التحالف ككتلة قطبية بمقابل الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية. وإذا لم يكن ذلك كله تدويلاً، فما هو التدويل؟ لقد أصبح هذا حقيقة واقعة تنبئ بأن السلطة في سورية عاجزة عن إيجاد حلول بمفردها، أو حلول داخلية لوضعٍ هناك إجماع على وصفه بالخطير، ليس فقط لأنه يزداد عسكرة ودموية كل يوم، وينزلق أكثر فأكثر إلى اكتساب مواصفات الفوضى العامة إن لم يكن الحرب الأهلية، بل لأنه يهدد مجمل المنطقة المحيطة به بانعكاسات جدية، وهي أصلاً منطقة متفجرة، علاوة على كونها ذات أهمية استراتيجية متنوعة الأبعاد. وضمن هذا الإطار، فإن وضع تلك المعطيات جنباً إلى جنب ينطق بالصورة: تربط سورية مصيرها بقوة تحالفاتها، أي بالتزام طهرانوموسكو بحمايتها وبتوفير أفضل المخارج الممكنة لها. ويحدث هذا بإزاء فشل «الحل الأمني» الذي يقول عنه السيد المعلم بأنه بات «مطلباً شعبياً» من فرط خشية الناس من الفوضى السائدة! والذي يرجَّح أن تعلو إلى الحدود القصوى الممكنة ارتكاباته في الفترة القريبة المقبلة، تحسيناً للشروط الذاتية بحوزة النظام ولثمن التسوية، وأيضاً لأنه المنطق الوحيد الذي يعرفه أهل هذا النظام. وإذ تطمئن سورية إلى هذا الحضن الدافئ، فهي ولا شك تعرف أن نتائج تترتب على اللجوء إليه في هذا الشكل، أهمها أنه، على رغم التشارك في المصلحة، فإن زاوية النظر وحساباته تختلف بالضرورة حين يُنظر إلى الموقف من موسكو أو طهران. فالبلدان، ومعهما حلفاؤهما، يخوضان معركة يعرفان تماماً أن نتائجها لا يمكن أن تكون مجرد وضع بعض التزيين على ما هو قائم في سورية، واعتباره عز الطلب. أي أن مشروع الرئيس الأسد الإصلاحي لم يعد اليوم يلبي الحاجات الواقعية لسورية، بعد مضي أكثر من عشرة أشهر على ثورتها العارمة. لعله كان يمكن أن يصلح في آذار (مارس) الماضي بل قبله، على ما تبدو فاعلية سلطات في المنطقة تستبق الأحداث، كالجزائر مثلاً. ولأنه لم يعد يصلح في آذار المقبل، لا بد من اعتبار الإطار السياسي للحل الذي أعلنت عنه الجامعة العربية أخيراً، ورفضته السلطة السورية بحزم، كمبتدأ لصراعات وتفاوضات وتعديلات، ثم صياغات شتى، تنتهي إلى الوقوع على آلية يمكن تطبيقها. سيحتاج الأمر إلى انضاج كثير، تريد موسكو القيام به بودية حيال النظام السوري. سيخضع لتجاذبات شتى، وكلام يبدو محتدماً إلا أن توتره يخفي أحياناً القبول أكثر من الرفض، أو العجز في أحيان أخرى، كما هو اليوم حال تركيا مثلاً مع سورية، حيث يتناقض ارتفاع الصوت مع الحذر الميداني، ما لا يعني بالمقابل وبطبيعة الحال الامتناع عن القيام بأي شيء. وينطبق الأمر نفسه على الدول الغربية، العاجزة بالتأكيد عن اتخاذ قرار بالتدخل العسكري يشبه ما جرى في ليبيا (لألف سبب وسبب)، ولكنها، وعلى حد قول مدير معهد الدراسات والتحليلات الاستراتيجية الروسي، السيد دميدنكو، تغسل أيديها من عجزها بوضع انسداد الموقف على عاتق الفيتو الروسي والصيني، مما يناسبها كثيراً. وكذلك حال الوضع العربي نفسه. فدعوة أمير قطر إلى إرسال قوات عسكرية عربية بدت اقتراحاً غير جدي، وعلى رغم ذلك، حرصت السعودية على النأي بنفسها عن الفكرة، بينما يقول ملك الأردن في مقابلة تلفزيونية في اختتام زيارته الولاياتالمتحدة، إن «لا أحد لديه جواب لسورية». وأما بديل الوقوع على مثل تلك الآلية، فتعليق للمشهد السوري ضمن مستنقع الدماء القائم والمتعاظم، بانتظار تذليل الموقف في أماكن أخرى باتت جميعاً مترابطة بصلات قوية ببعضها: ما الذي يمكن أن يحدث حول إيران، وفي منطقة الخليج برمتها، أو بخصوص مضيق هرمز؟ ما سيناريوات الجنون الإسرائيلي؟ ما الذي يمكن أن يحصل في منطقة شرق آسيا ويعدل في تعريف مصالح الأقطاب الدوليين المتصارعين؟ ما الذي يمكن أن يجرى على صعيد الأزمة الاقتصادية العالمية من انهيارات جديدة قد تدفع للانكفاء كما للحروب الكبرى، وفق خبرة التاريخ الإنساني...؟ وتبدو الاستراتيجية السورية (بمقدار ما يمكن افتراض وجودها، وليس فقط تسجيل كل الخيارات تحت بند الخبط العشواء للبقاء على قيد الحياة) معتمدة على تعقيد المشهد وخضوعه لاعتبارات دولية كي تعتدّ بفترة تعليق تأمل بأن تكون مديدة. لكنها تخطئ إذ تراهن على كسب الوقت وتحيّن الفرص. فالموقف ذو حدين، مما لا يخفى، وقد تجد السلطة السورية نفسها في أي لحظة بمواجهة انزياح ولو طفيف (ولكنه قاتل بالنسبة لها) في مواقف حلفائها الحامين، بعد أن تكون قد فقدت كل زمام. بل ذلك الانزياح (عما تشتهيه او تتخيل إمكانه) قائم أصلاً. فهناك سياق يتبلور، ويندرج ضمن ترتيب عناصر مسرح الحرب الباردة (حتى الآن!) الجديدة. والشطارة هي في التقاط وجهته. ما لا تعطي السلطة السورية حتى الآن إشارات عليه، وقد تكون عاجزة عن ذلك.