بعد مضي عشرة شهور على اندلاع الثورة السورية صار واضحاً، بالنسبة الى عموم المعارضة، أن التدخل الخارجي في سورية أمر من الصعب أن يتحقق، خصوصاً بعد تكشّف شبكات معقدة من العلاقات والمصالح بين الدول (المعنية) بالتدخل والنظام السوري، كما تبدو فاتورة التدخل مرتفعة وليست تلك الدول في وارد دفعها لعيون الشعب السوري. فشهور العنف الوحشي ضد الشعب لم تجعل أياً من تلك الدول تقوم بإجراءات حقيقية، لا كاريكاتورية، لإجبار النظام على وقف العنف. ويكاد الوضع يبدو كنكتة ابتدعها أحد الخبثاء، حيث الدول الكبرى أم متثاقلة على كرسيها وتريد عقاب ابنها (النظام السوري) فتصيح به ليأتي كي تضربه، وذاك الابن يشير اليها من بعيد ساخراً بأنه لن يأتي... وهكذا، لا هي تقوم ولا هو يأتي! وأعتقد أن المجلس الوطني وقع في ما يشبه المأزق بعدما منّى الشعب بالتدخل الآتي لا محالة لإنقاذه، وها هم الشهداء يسقطون يومياً، والمعتقلون يزدادون، والفارّون يغادرون البلاد، وسبل العيش تضيق، إضافة إلى التهديد المستمر بالأمان وعمليات الترهيب. فالنظام، كما بات واضحاً، لن يتراجع قيد أنملة عن خياره الأمني، بل على العكس سيعمّق «الضرب بيد من حديد». وهذا يُدخل الشعب نفقاً معتماً مسدوداً، فهو والطغيان وحدهما وجهاً لوجه في المعركة. كل ذلك جعل دعوات تسليح الثورة (عسكرتها)، والتي بدأت قبل شهور، تلقى اليوم رواجاً أكثر من أي وقت مضى كأنها الحل الوحيد! فبالإضافة إلى أعداد راحت تتزايد من الجنود المنشقين، طفق الكثير من المناطق (المشتعلة) ينفق أموال الإعانة في تأمين الأسلحة، التي يساعدهم في تأمينها، أحياناً كثيرة، رجال من قلب النظام. وهذا لم يعد سرّياً، فالثوار يجهرون به باعتباره حقاً أو طريقة مشروعة في الكفاح الثوري. وأعتقد أن بعض هذه الحالات ستصنّف في باب الدفاع عن النفس، المنصوص عليه في شرعة حقوق الإنسان، بعدما بلغت وقاحة العنف حداً لا يمكن وصفه. لكن الأمر تطوّر أخيراً إلى ما يشبه المبادرات المسلحة يقوم بها بعض الثوار، وهذا ما فتح الباب لدخول عناصر غريبة عن الثورة، يشكّل الانفلات الأمني تربة خصبة لها، إضافة إلى كثير من الأيدي التي تعبث بالثورة لمصلحتها الخاصة، والتي تعمل على إزكاء هذه النزعات واستغلال الحالة الصعبة التي زجّ النظام بها البلاد. وهذا أيضاً ما يبرر لرجال النظام الأمني، على رغم أنهم لا يحتاجون الى أي تبرير، القيام بمبادرات عنفية مضادة أشرس. هكذا، فمقارنة تسليح الثورة السورية بالثورة الليبية، الذي أدى في النهاية إلى نجاحها، غير صحيح هنا! فما حدث في ليبيا، على رغم كل مشاكله، لا يشبه بحال الوضع في سورية. فالثورة الليبية كانت تنطوي على اقتتال سياسي بصبغة قبلية، ما جعل قبيلة القذافي تباشر الاندماج مع المجتمع شيئاً فشيئاً اليوم. أما النظام السوري، من حيث أنه يفضل خراب البلاد على أن تكون خلواً منه، فعمل في شكل ممنهج ومدروس على شرخ المجتمع، بل تفتيته، طبقياً وسياسياً واجتماعياً وطائفياً وحتى عشائرياً، وتزكية الفتنة الطائفية، التي كانت بذورها تنمو في السرّ منذ عقود. وكانت له في ذلك دروب عدة، منها ما راح يتقصّده من تسريب لفيديوات تُظهر أعمال عنف طائفية (من الطرفين)، كتدنيس الجوامع وإهانة المتظاهرين بناء على خلفية طائفية، وكان المساهم في تلك الخطة (المكشوفة) بعض وسائل الإعلام التي بالغت في عرض تلك الفيديوات لإثارة «الحنق الطائفي». كما راح النظام يتقصّد إنزال رجال أمن وشبيحة من طائفة معينة ليقتلوا المتظاهرين، وهذا ما حدث في عديد المدن التي تعيش الطوائف فيها متجاورة كحمص واللاذقية، والحديث يطول عن تفننه في العداوات الطائفية. وقد تجوز مقارنة الثورة السورية بالثورة اليمنية مثلاً، المصرّة على سلميتها، على رغم أن العنف في سورية لا تمكن مقارنته بحال مع العنف هناك. لكن ينبغي ألا ننسى مجموعة التصرفات الخطيرة التي راح النظام الأمني يقترفها، ومنها إعطاء عشرات آلاف الهويات الأمنية المستحدثة لمجموعات من شباب الأقليات، ومعها أسلحة وذخائر، ليشكلوا ما يسمى «اللجان الشعبية» التي ستحمي حارات الأقليات وقراهم ومناطقهم حين سيهجم «السلفيون والمتطرفون» بهدف قتلهم، في حال سقوط النظام، وهو ما دأب ليل نهار على إقناع هذه الأقليات الخائفة به، سواء في وسائل إعلامه الرسمية أو عبر شبكة متخصصة بالعمل على الأرض. وهذا السبب نفسه الذي يجعل عناصر الجيش الصادرين عن الأقليات مقتنعين، عبر آلية التعبئة تلك، بأنهم يحاربون الشر الأعظم، وربما كانت صدمتهم في حالات كثيرة بأنهم يقتلون مدنيين سوريين هي التي تجعل بعضهم يغامر بحياته وينشق أو يهرب. كل هذا جعل السلاح في سورية اليوم متاحاً لطوائف مختلفة ومجيّشة ضد بعضها، يحرّكها لعب يومي قذر، يجعل أطياف الشعب أشبه بجماعات تسيّرها حادثة من هنا وفيديو أو إشاعة لا صحة لها من هناك. وبالتالي يضحي المشهد مفتوحاً وسط كل هذا على حرب أهلية، يبدو أن النظام يعدّها لتكون ورقته الأخيرة في المعركة. وليس المقصود هنا أن الطوائف ستهجم في شكل درامي على بعضها، لكن مئة «أزعر» يستطيعون إشعال حرب لا أحد يعرف إلى أين يمكن أن تقود البلاد. بهذا تبدو تقوية «الجيش الحر» بمثابة حل ما، فقوننة المقاومة المسلحة وتنظيمها أمر إيجابي، ولكنْ مع هذا يبدو من الصعب، ضمن الإمكانات الحالية، أن يصل إلى كل الأماكن لمساندة شعبه، ثم من سيحارب «الجيش الحر»؟ سيحارب، بالمختصر، سوريين آخرين، هم إخوته في الوطن! وأكثرهم مغرر به أو محكوم بالخوف. إن ما يتحمله الشعب السوري من ويلات ستجعله يستعجل تحقيق الثورة بأية طريقة، وفي الحقيقة ليس لدى أحد سيناريوات فعالة وسريعة لتحقيق ثورتنا، سوى التدخل الإنساني للأمم المتحدة وما جاء في الفصل السابع من ميثاقها حول وقف الصلات الاقتصادية مع النظام، وكذلك وسائل المواصلات وقطع العلاقات الديبلوماسية، ومن ثم إنشاء المناطق والممرات الآمنة للمدنيين، وأخيراً تحويل الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية لمعاقبة مجرمي الحرب ضد الشعب السوري. وأعتقد أن الثورات لا تقاس بطول زمنها وأثمانها بل بتحقيق أهدافها، والأهداف الأولى لهذه الثورة كانت الحرية والكرامة والديموقراطية والمدنية، وهذا ما لن يتحقق في ظل شبح اقتتال طائفي لا يعلم إلا الله كم ستكون أثمانه.