تبدو مدينة بنغازي أشبه برسالة مفتوحة، منذ بدء الثورة التي انتهت بالتحوّل إلى حرب أهلية وتدخّل خارجي أديا إلى إطاحة نظام معمّر القذافي الذي دام 42 سنة. مُلئت جدران المدينة بشعارات سياسية كُتبت بألوان متعدّدة وبخطوط يد مختلفة. واستعاد السكان على غرار سائر أنحاء ليبيا المساحة العامّة التي حُرموا منها في ظلّ عهد القذافي. وتتمحور الشعارات والرسومات حول ثلاثة مواضيع أساسية: تنتقد الديكتاتور السابق وتدعو إلى إسقاطه وتصفه على أنه «ملك الجرذان» أو تحتفل ب «ليبيا الحرّة» أو تنثر أسماء الشهداء الذين سقطوا خلال الحرب مع ماكينة القذافي العسكرية. وعند مدخل مقرّ جمعية الهلال الأحمر الليبي الذي يقع بمحاذاة مبنى جهاز الأمن الرئيسي حيث انطلقت ثورة السادس عشر من شباط (فبراير)، تمّ تغطية الجدران بلافتات مصنوعة يدوياً تحمل صور شبّان وأسماءهم والمكان الذي تمّت فيه مشاهدتهم لآخر مرة إضافة إلى رقم هاتف للاتصال بذويهم في حال توافر معلومات عنهم. لقد فُقد عدد كبير من هؤلاء الشبّان خلال التنقّل بين جبهات القتال بين أجدابيا والبريقة، جنوب غربي بنغازي. وتشير التقديرات إلى أنّ عدد المفقودين في ليبيا يتراوح بين 20 و25 ألف شخص مع العلم أنّ معظمهم فُقد خلال النزاع الذي دام ثمانية أشهر فيما فُقد آخرون خلال التطهير السياسي الذي مارسه نظام القذافي. انطلقتُ برّاً في رحلة على مدى عشرة أيام من بنغازي إلى طرابلس في شهر كانون الأوّل (ديسمبر) 2011 لمحاولة معرفة كيف يتمّ بناء ليبيا بعد الحرب لا سيّما أنني كنت مهتمّاً برؤية التفاعل بين الميليشيات المسلّحة التي تشكّلت خلال الثورة وتأثير الأموال المتأتية من النفط. كما أردتُ معرفة مدى الاختلاف بين ليبيا بعد الثورة وقبلها وما إذا كانت قادرة على الإفلات من مصيرها بحيث تساهم التقاليد والجغرافيا والأنماط الاقتصادية في بلورة النتائج السياسية. وفيما رحتُ أطرح أسئلة حول الشؤون الحالية، رجع الأشخاص الذين تحدثت إليهم إلى الماضي وليس إلى الأشهر القليلة الماضية التي شهدت الحرب التي خرجوا منها لتوّهم. رجعوا إلى السبعينات والثمانينات من القرن الماضي وإلى الحرب الكارثية مع التشاد وإلى سنوات الحظر القاتمة التي فُرضت على ليبيا وإلى الطريقة التي سيطر فيها العقيد على حياتهم وإلى القمع العنيف الذي مارسه ضد أيّ نشاط سياسي مستقل. ومع الوقت، أدركتُ مدى حاجة هؤلاء الأشخاص إلى التحدّث عمّا كان ممنوعاً التطرّق إليه على مدى عقود لا سيّما الطريقة التي تصرّف فيها القذافي بحياة الشعب الليبي من دون أن يلقى أي عقاب. الشرق المتخلّف يكشف المشهد في بنغازي عن عقود من اللامبالاة بهذه المدينة. فأحياؤها التاريخية مدمّرة فيما المباني التي تعود إلى العصر الاستعماري مهدّمة. وأقفل القذافي الكاتدرائية التي بناها الإيطاليون عام 1920 وحوّلها إلى متحف فيما أصبح المعبد الذي يقع بالقرب منها، مكاتب «للّجان الثورية» علماً أنّ كليهما في حاجة ماسّة إلى التأهيل. أما الطرق الممتدة من الكاتدرائية باتجاه سوق الجمعة التقليدية فمعبّد جزئياً فيما تملأ المياه الجارية الحفر الكبيرة في الشوارع. وعلى الطريق الرئيسي بين بنغازي باتجاه الجنوب، عند ضواحي المدينة تجد مجمّعاً سكنياً كبيراً لم يتمّ الانتهاء من تشييده. كانت شركة صينية تتولّى مهمّة بنائه من أجل تخفيف وطأة النقص الحادّ في المساحات السكنية. وبين بنغازي وطرابلس، يلاحظ المرء وجود عدد أكبر من مشاريع البناء غير المنتهية. وبعد أربعة عقود من الحكم، لم ينضج مشروع جماهيرية معمّر القذافي ولم يتمّ إنهاؤه بالكامل وقد تحوّل اليوم إلى أنقاض. حسين اللجمي وهو ناشط عاد إلى دياره بعد الثورة، قال «طالما كانت بنغازي مركزاً لنشاط المعارضة بدءاً من العصر العثماني مروراً بالاستعمار الإيطالي وصولاً إلى الفترة التي حكم فيها الملك». ونظراً إلى كونه شابّاً، أوقعه تفكيره النقدي في ورطة. حين كان طالباً لم يكن يصدّق الأخبار الرسمية. وبعد أن هزأ ببعض المقاطع الواردة في الكتاب الأخضر تمّ تهديده بالاعتقال. فهرب إلى أوروبا حيث أمضى عشر سنوات في المنفى في سويسرا على ضفاف بحيرة جنيف. ومن هناك، شارك في الثورة من خلال إطلاق صفحة على موقع «فايسبوك» تدعو إلى يوم غضب في 17 شباط (فبراير). وأردف اللجمي «لقد اندلعت شرارة الثورة في بنغازي فيما أُطلقت الأفكار في مدينة فيفي». وقال المهندس سعد العبيدي في بنغازي «لقد تركتُ المنطقة الشرقية المتخلفة في عهد القذافي. لم تحظ هذه المنطقة في السنوات العشر الماضية باستثمارات. على رغم أنّ 70 في المئة من نفط ليبيا و80 في المئة من مواردها المائية موجودة في الشرق، تمّ إهمال هذه المنطقة». بالتالي، لا عجب في أنّ الثورة الليبية بدأت في الشرق وفي بنغازي تحديداً. وأضاف «كان الشباب يعانون البطالة وكانوا يمضون معظم وقتهم في المساجد. ولا عجب في أنّ أكثرية الأشخاص الذين قُتلوا في مجزرة سجن أبو سليم كانت من الشرق». عام 1996، فتحت السلطات النار على السجناء بعد أن أثاروا أعمال شغب في سجن أبو سليم الشهير في طرابلس، ما أدى إلى مقتل حوالى 1270 سجيناً. وحين اعتقلت السلطات فتحي تربل، المحامي الذي دافع عن حقوق عائلات السجناء في أبو سليم في 15 شباط 2011، سارت العائلات باتجاه المبنى الرئيسي لجهاز الأمن في بنغازي. فتمّ إطلاق سراح تربل في اليوم التالي إلا أنّ الأوان كان قد فات إذ كانت الانتفاضة في بنغازي قد اندلعت. من الذي يسيطر على بنغازي؟ تأسّس المجلس الانتقالي الوطني في مدينة بنغازي بقيادة مصطفى عبدالجليل الذي يملك تأثيراً كبيراً في هذه المدينة وفي مسقط رأسه البيضاء القرية المجاورة لها. ويبدو أنّ اللجان العسكرية الثورية التي يسيطر عليها الائتلاف القائم بين فوزي أبو قطيف، رئيس اللجان العسكرية في شرق البلد وكتيبة إسماعيل الصلابي، شقيق الداعية علي الصلابي الذي يعدّ شخصية بارزة في منظمة «الإخوان المسلمين» في ليبيا، متأثرة في شدّة بالتيارات السياسية الإسلامية المقرّبة من «الإخوان» في بنغازي. وعلى رغم أنّ بنغازي وشرق ليبيا قد وحّدا تاريخياً إرادتهما السياسية في زمن المقاومة ضد القوى الاستعمارية الإيطالية، أظهرت الحرب في السنة الماضية وجود تصدعات حادّة. أما الحدث الذي أثار صدمة كبيرة فهو مقتل عبدالفتّاح يونس، وزير الداخلية الأسبق الذي انشق عن النظام وأصبح قائد أركان قوى الثوّار. لقد قُتل في ظروف غامضة في 28 تموز (يوليو) بعد أن تمّ استدعاؤه من الجبهة. ولا تزال ظروف مقتله الغامضة تشكّل عامل انقسام ويمكن أن تبقى الحال على هذا النحو. أفصحت موجة من التظاهرات في شهر كانون الأول عن وجود انقسام آخر بين المجلس الوطني الانتقالي وداعميه وبين الشباب التوّاقين إلى التغيير الديموقراطي. وفي 12 كانون الأول، تجمّع 20 ألف شخص في ساحة الشجرة لانتقاد المجلس الوطني الانتقالي وافتقاره إلى الشفافية، الأمر الذي كشف عن وجود عدم رضى شعبي. وجاءت التظاهرة كردّ فعل على إعلان عبدالجليل الصفح عن المقاتلين الموالين للقذافي الموجودين حالياً في مختلف السجون التي تديرها ميليشيات الثوّار. كما أظهرت التظاهرات وجود انزعاج أكثر عمقاً من حكّام ليبيا الجدد. وفي معرض الرد على ذلك، أعلن المجلس الوطني الانتقالي أنّ بنغازي قد تصبح «عاصمة ليبيا الاقتصادية». وتمّ تنظيم تظاهرة صغيرة ضمّت حوالى 5 آلاف شخص في اليوم التالي فيما تجمّع متظاهرون آخرون في ميدان التحرير للتعبير عن دعمهم لعبدالجليل والحكومة. تقع بنغازي على بُعد 1024 كيلومتراً من طرابلس. وتتقاطع الطريق مع ساحل ليبيا المطل على البحر الأبيض المتوسط إلا أنّ معظم أجزاء وسط ليبيا صحراوي ويقسّم المنطقتين إلى كيانين منفصلين عن بعضهما بعضاً على مرّ التاريخ. وحين أرسى الفينيقيون سوقاً تجارياً في مدينة أويا التي كانت تحت تأثير قرطاج والتي باتت اليوم طرابلس، كانت مدينة بنغازي تقع حينها تحت تأثير الهيلنيين. وتمّ إنشاء المملكة الليبية الحديثة على أساس وحدة المناطق الثلاث تريبوليتانيا وسيرينايكا وفزان التي تحظى كلّ منها بإدارتها الخاصة. وساهم النمو السريع في إنتاج النفط في بروز الحاجة والوسائل الضرورية لتوحيد الإدارة الليبية. وبعد الانقلاب العسكري عام 1969 الذي نفذّه «الضبّاط الأحرار»، وصلت هذه المركزية إلى مستويات تعدّ سابقة. إلا أنّ حكم القذافي اعتُبر حكم «الغرب». وتمّ ترك المناطق الشرقية من دون استثمارات فيما انتشرت البطالة والمجموعات الإسلامية المتشدّدة تباعاً. واليوم، لا تزال التوترات نفسها مستمرة. ويعزى سببها إلى كيفية بناء دولة موحّدة ومؤسسات جديدة إلى جانب احترام تعدّدية المناطق. وتبدو هذه المشكلة أكثر حدّة من تلك التي برزت عامي 1951 و1969 لسببين: الأول هو أن الثورة ضد النظام القديم لم تكن تحظى بمركز موحّد وكانت مقسّمة بين جبهات مختلفة: بنغازي والشرق ومصراتة والزنتان وجبال نالوت. وطوّرت هذه الثورات المعزولة بناها العسكرية الخاصة التي تحاول إيجاد تعبير سياسي خاص بها في ليبيا بعد الحرب. وستمرّ ليبيا عبر عملية سياسية إلى جانب إرساء دستور جديد وإطار عمل قانوني وعملية انتخابية تشريعية فيما كانت الأحزاب السياسية غير شرعية خلال الحكم الطويل للعقيد الذي دام 42 سنة. وفي مكان تغيب فيه الأحزاب السياسية، سيؤدي تشكّل بنى أخرى هذا الدور فيما المجموعات المؤثّرة هي ميليشيات المدينة التي تشكّلت خلال الحرب. أما الصعوبة الأخرى التي تعترض تشكيل مؤسسات دولة ليبية جديدة فهي في كيفية انخراط المجموعات التي وقفت إلى جانب العقيد خلال الحرب، والتي من شأن تهميشها التسبّب بظلم وبعنف في المستقبل.