لم تكن القيادة الفلسطينية بحاجة إلى جولات تفاوضية أو «استكشافية»، كالتي أجريت في عَمّان، لإثبات مسؤولية إسرائيل عن توقّف عملية التسوية، بعد ما يقارب عقدين على تجربة أوسلو، وبعد التزام الفلسطينيين طوال الأعوام الستة الماضية بالتهدئة ونهج المفاوضة، في ظلّ ترؤس أبو مازن السلطة. عدا ذلك فإن الوقت الراهن ليس وقتاً للمفاوضات ذلك أن المعادلات السياسية الدولية والإقليمية والعربية هي على عتبة تغيّرات هائلة، وغير مسبوقة، لا سيّما بدفع من التداعيات الناشئة عن الثورات العربية. وبصراحة فإن مشكلة الفلسطينيين لا تكمن في المفاوضات بحدّ ذاتها، إذ إن أي طرفين متعاديين ومتصارعين لا بد أن يصلا في مرحلة معينة إلى المفاوضات لعقد تسوية ما، وإنما هي تكمن في الرؤية التي تنبثق منها هذه العملية، وفي المفاهيم التي تتأسّس عليها، والإدارة المناسبة لها، وموازين القوى المساندة لها. المؤسف أن القيادة الفلسطينية بدأت التنازل سلفاً بقبولها التفاوض على أقل من ربع فلسطين وانطلاقاً من ملف 1967 بدلاً من ملف 1948، أو أقلّه من قرار التقسيم (181 لعام 1947). وحتى في هذا الشأن ففي هذه المفاوضات اعتُبِرت الأراضي المحتلة (عام 1967) أراضي متنازعاً عليها، إذ لم يجرِ تعريف إسرائيل كدولة احتلال، ولا تعريف الضفة والقطاع كأراضٍ محتلة! كما لم يتمّ النصّ على وقف الاستيطان ولا على تحديد مآل الحلّ النهائي، وفوق ذلك فقد تمّ إلزام الفلسطينيين الاعتراف بإسرائيل وبوقف كل أشكال المقاومة قبل إنهاء الاحتلال! وتبيّن التجارب التفاوضية في العالم بأن تسوية الصراعات لا تتحقّق بالتوسّلات والمناشدات وإبداء حسن النيّة وبذل التنازلات وما يسمى ببناء قواعد «الثقة»، وإنما هي تتطلّب وجود ظروف عدّة، أو شروط. فقد يمكن التسوية أن تأتي بنتيجة قيام نوع من التكافؤ ولو النسبي في موازين القوى بين الأطراف المتصارعة (وهذه لا تشمل القوّة العسكرية فقط)، ما يرفع تكلفة الصراع بين الطرفين المعنيين، بحيث تبدو الخسائر أكثر من المكاسب. كذلك يمكن التسوية أن تحصل بنتيجة استسلام طرف لطرف آخر، وقبوله شروطَه. أيضاً، يمكن عوامل دولية وإقليمية ضاغطة أن تفرض التسوية على المتصارعين، إذا بات الصراع بينهما مكلفاً ويهدّد بتداعيات خطيرة على السلم والأمن الدوليين. وقد تحصل التسوية نتيجة تبلور وعي لدى كتل مجتمعية واسعة، عند الأطراف المتصارعة، بوجود مصلحة مشتركة لها في تجاوز حال العداء لبناء مستقبل مشترك على أساس توازن المصالح والحقوق. وأخيراً قد تحصل التسوية بنتيجة اقتناع مجتمع المعتدين أو المستعمِِرين (في حالة إسرائيل) بضرورة التحرّر من علاقات الاحتلال، سواء تطور في الثقافة السياسية والأخلاقية عنده، أو بسبب ارتداد تداعيات استمرار الصراع والعداء عليه. هكذا، حصلت تسويات الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتسويات الحرب الباردة، وهكذا انتهت النظم الاستعمارية في آسيا وأفريقيا، وهكذا تمت تصفية نظام التمييز العنصري «الأبارثايد» في جنوب أفريقيا. وإذا حاولنا ترجمة ما تقدم على التجربة الفلسطينية الإسرائيلية، فسنجد أن المفاوضات خلت من أي من العوامل المذكورة. فليس ثمة تكافؤ في موازين القوى بين الأطراف المعنية، والفلسطينيون لا يقرّون ولا يسلّمون لعدوّهم بالغلبة. وكذا ليس ثمة عوامل دولية وإقليمية (وعربية) ضاغطة على إسرائيل لحضّها على عملية التسوية، ولو وفق قرارات الشرعية الدولية. أما في شأن قبول المجتمَعَين المعنيين التسويةَ، فمن الواضح أن ثمة قبولاً لبرنامج التسوية عند قطاعات واسعة من الفلسطينيين، في حين أن المجتمع الإسرائيلي (بتياراته) لم يبدِ أي تجاوب في هذا الشأن، وذلك بحكم سيادة الأيديولوجية الصهيونية العنصرية في هذا المجتمع، المدعومة بغطرسة القوّة. أخيراً فإن السكوت الدولي عن سياسات إسرائيل الاحتلالية والاستيطانية، وتحوّل الفلسطينيين من طريق المقاومة إلى المفاوضات والتنازلات، التي وصلت حدّ إزاحة روايتهم الخاصّة عن الصراع، لم يستطيعا توليد ثقافة تسوية (ولو نسبية) عند غالبية الإسرائيليين، بل إن ذلك شجّعهم على التشدّد والتعصّب القومي والديني، مع شعورهم بأنهم مقيمون في احتلال مريح ومربح. هذا يعني أن مشكلة إسرائيل لم تكن تتعلّق بشخص ياسر عرفات، برمزيته وطريقته في العمل، ولا بحركة «حماس» وما تريده، ولا بوجود تنازلات فلسطينية في التحوّل عن الرواية الأصلية للصراع الذي بدأ بقيام إسرائيل (1948) إلى الرواية التي تبدأ مع احتلال 1967، ذلك أن مشكلة إسرائيل هي مع نفسها، ورؤيتها لذاتها، وفي طبيعتها كدولة استعمارية وعنصرية ودينية. لهذا كله فإن القيادة الفلسطينية مطالبة بنبذ الأوهام عن التسوية، ورؤية إسرائيل على حقيقتها، ووقف الارتهان للعملية التفاوضية المذلّة والمجحفة والمضنية، والالتفات إلى إعادة بناء الوضع الداخلي واستنهاضه. وباختصار فقد بات الاستمرار في العملية التفاوضية نوعاً من العبث لأن هذه العملية انتهت منذ زمن، مع التحوّلات الحاصلة في إسرائيل، التي باتت أكثر يمينية وعنصرية ودينية من قبل، وهي انتهت، أيضاً، مع التحوّلات الجارية في البيئة السياسية العربية. آن الأوان للفلسطينيين أن يدركوا جيداً أن الأوضاع الدولية والإقليمية الراهنة، والمتغيّرات الحاصلة بدفع من الثورات الشعبية العربية، المفتوحة على قيم الحرية والديموقراطية والعدالة، ودولة المواطنين، تفسح أمامهم المجال واسعاً للتحرّر من أسر المعادلات السياسة السابقة، التي كانت مجحفة بهم وبقضيتهم. في هذه الظروف ربما الأجدى للفلسطينيين أن يحسنوا استثمار المتغيّرات الجارية في البيئتين الدولية والعربية، وأن يدخلوها في حسبانهم، لتوليد معادلات سياسية جديدة وبديلة في صراعهم مع إسرائيل، بما يعيد الاعتبار للمطابقة بين أرض فلسطين وشعب فلسطين وقضية فلسطين. ومعنى ذلك أنه ينبغي إعادة الاعتبار للتلازم بين الحقيقة والعدالة (ولو النسبية) في قضية الفلسطينيين، بما لا يمتهنها باختزالها إلى مجرد صراع على جزء من الأرض لجزء من الشعب، أو إلى مجرد قيام دولة على خمسة آلاف كلم مربع. هكذا يمكن إعادة الاعتبار لقضية فلسطين باعتبارها بمثابة صراع على المكان والمستقبل بين مشروعين متناقضين، أحدهما استعماري وعنصري وديني، يسير عكس عجلة التاريخ، وهو ما يحصل في إسرائيل بخاصّة هذه الأيام، في مقابل المشروع التحرّري الديموقراطي العلماني الذي يتوسّل دولة المواطنين الأحرار والمتساوين. هذا يعني أن القيادات الفلسطينية مطالبة بأن تسهّل هذا المسار بدل إعاقته وبدل مداعبة الأوهام عن مشاريع عبثية ومضرّة أخرى. * كاتب فلسطيني