تثير محاولات القيادة الفلسطينية التمرد على مسارات عملية المفاوضات، بالشكل الذي سارت عليه، العديد من التساؤلات. فهل ثمة لدى هذه القيادة ما يفيد بإمكان نجاح مشروعها المتعلق بإقامة دولة مستقلة في غضون عامين (أي في نهاية أول عامين من ولاية اوباما)؟ وما هي أوراق الضغط التي تختزنها لفرض هذا الخيار على إسرائيل؟ ثم هل ستذهب هذه القيادة إلى النهاية في هذه المحاولة، بغض النظر عن نتائج ذلك، عليها وعلى السلطة؟ واضح أن القيادة الفلسطينية لم تذهب نحو هذا الخيار الصعب، وغير الواضح، إلا بعد أن ملّت ويئست من العملية التفاوضية. وايضاً، بعد أن باتت غير قادرة على الاستمرار على ذات المنوال، أولاً، لأنها تيقّنت أن هذه العملية تأكل من رصيدها، من دون مقابل. وثانياً، لأن إسرائيل لم تبد، طوال ال 16 عاماً الماضية، أية توضيحات في شأن نهاية هذه العملية، لا على الصعيد الزمني، ولا من ناحية مآلاتها السياسية. الآن، إذا كانت هذه القيادة، في محاولاتها التحرّر من أسر القيود التفاوضية الإسرائيلية، لا تراهن كثيراً على نوايا الدول الكبرى، لا سيما بعد تجربتها مع إدارة أوباما، التي تراجعت عن طلبها تجميد كامل الأنشطة الاستيطانية، فإنها على الأرجح تراهن على انضغاط هذه الدول إزاء الأزمات التي تتعرض لها، من العراق إلى باكستان وأفغانستان وإيران، بعد ان باتت استحقاقات هذه الأزمات على الأبواب. لكن هذه المراهنة بدورها تحتوي على العديد من الثغرات. فالدول الكبرى، كما أثبتت التجربة، يمكن أن تتجاوز حل القضية الفلسطينية إلى محاولات حلحلة عملية التسوية على مسارات أخرى، وربما في هذا الإطار يأتي تلويح إسرائيل (ومعها فرنسا) بتفعيل المسار السوري. أيضاً، ثمة حديث عن نوع من مقاربة مع بعض الأطراف في المنطقة في شأن وضع الملف النووي الإيراني، وتحجيم نفوذ إيران في الشرق الأوسط، على رأس الأجندة الدولية، مقابل غضّ النظر عن عملية التسوية راهناً. وثمة في التجربة ما يؤيد ذلك، مثلاً، فقد قللت زعامات حركات الاستقلال العربية في بدايات القرن الماضي اهتمامها بدعم شعب فلسطين، لتعزيز مكانتها ونيل استقلال بلدانها. وفي التجربة القريبة، تجاهلت إدارة بوش حل القضية الفلسطينية، وخاضت غزوة العراق، من دون أن ينعكس ذلك سلباً على مصالحها في المنطقة. بمعنى آخر فإن خيار التحرر من أسر مفاوضات أوسلو (على صحته) يكتنفه كثير من الصعوبات والتعقيدات والثغرات، بخاصة أن النظام العربي مشغول بأوضاعه الداخلية، وبمشكلاته البينية، وما زاد عليها مؤخراً مشكلات الحوثيين لليمن والسعودية، والواقعة «الكروية» بين مصر والجزائر!، وكلها أحداث تبين كم أن العالم العربي، على صعيد الحكومات والمجتمعات، بات بعيداًَ من خلق حالة ضاغطة على الولاياتالمتحدة، وبالتالي على إسرائيل، لإحقاق ولو بعض حقوق الفلسطينيين. الأنكى من ذلك أن التوقيت الفلسطيني لهذه المحاولة ليس مثالياً البتة، فثمة انقسام سياسي مزمن، والسلطة لا تسيطر على إقليمها، أو على دولتها المفترضة، وليس ثمة إجماع بين الفلسطينيين على إستراتيجية سياسية أو نضالية لمواجهة الواقع المزري الذي يعتريهم. على ذلك يخشى القول إن هذه المحاولة جاءت، على الأرجح، متأخرة جداً، وربما أنها جاءت بعد فوات أوانها. وعلى أية حال فإن هذه الخطوة مرهونة أساساً، وعلى الأكثر، بما تريده أو بما تفعله إدارة أوباما، وليس بمجرد ما تقوله. وعلى رغم ذلك، ثمة أهمية لتجريب هذا الطريق، فكما قدمنا فإن الطريق السابق لن يوصل الفلسطينيين إلى شيء، ويمكن للمفاوضات أن تستمر إلى ما شاء الله، وفي هذه الأثناء ستواصل إسرائيل فرض الأمر الواقع في المستوطنات والجدار الفاصل والطرق الالتفافية وتهويد القدس، عبر اقتلاع الفلسطينيين من منازلهم وعبر التضييق عليهم. وإذا صحّ القول بأن الفلسطينيين معنيون جميعا بتدعيم هذا الخيار (برغم تأخره وما يحيط به من ثغرات)، فإن المطلوب على ضوء ما تقدم أن تحسم القيادة المعنية أمرها تماماً، وأن لا تظهر أي تردد أو حيرة في مواقفها. هكذا، على الرئيس الفلسطيني أن يصر على عزوفه عن الترشح للرئاسة، وحمل الأمر مرة واحدة، مع الدول العربية، إلى مجلس الأمن الدولي، وإن تعذر الأمر فإلى الأممالمتحدة، لتحميل المجتمع الدولي مسؤولية التسوية، وإنفاذ القرارات ذات الصلة التي كان اتخذها في شأن قضية فلسطين. وثمة قرارات كثيرة ومهمة، مثل القرارين 181 (القاضي بتقسيم فلسطين وإقامة دولة للفلسطينيين) و194 القاضي بحق العودة للاجئين وإيجاد حل عادل لقضيتهم، وكذا قرارات مجلس الأمن الدولي، من القرار 242 القاضي بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها (1967)، إلى القرار 1397 (لعام 2002) القاضي بإقامة دولة فلسطينية، إلى القرار 1515 الذي أعاد النص على إقامة دولة فلسطينية وفق خطة «خريطة الطريق». وفي هذا الإطار لا شك في أن القيادة الفلسطينية معنية بتنشيط حركتها السياسية لحشد الدعم العربي والتأييد الدولي لها، ولكنها معنية أكثر بترتيب البيت الفلسطيني، وضمن ذلك بذل المزيد من الجهود لإعادة اللحمة الى ساحتها، أو على الأقل التوافق على الأشكال المناسبة لحسم الخلافات والانقسامات الداخلية، والتقرير في شأنها، في إطار يحفظ سلامة التعددية والعلاقات الديموقراطية، ويكفل توجيه الجهود لمواجهة السياسات الإسرائيلية. بكلمة واحدة، فإن القيادة الفلسطينية معنية، وأكثر من أي وقت مضى، بإظهار جديتها وحسمها لطريقها السياسي، في عدم الاستمرار وفق المعادلات التي سارت عليها عملية المفاوضات مع إسرائيل، ومن دون إبداء تراجعات أو ترددات. لكن السير بهذا المسار يعني أن هذه القيادة يجب أن تذهب به إلى نهايته، إذا لم تستطع تحقيق النجاح فيه (بإقامة الدولة المرجوة)، وإلى درجة الذهاب نحو حل السلطة، وتقويض المعادلات التي قامت عليها اتفاقات أوسلو من أساسها، وكشف إسرائيل على حقيقتها كدولة استعمارية عنصرية وأصولية. أما المسار الآخر الذي يمكن أن تذهب إليه فيتمثل بإنهاء الوظيفة التفاوضية، وتحويل السلطة إلى نوع من قيادة همها تأطير المجتمع وإدارة أوضاعه، وبناء مؤسساته الكيانية (وهو ما تضمنه برنامج حكومة سلام فياض)، وقيادة كفاحه لدحر الاحتلال، باعتماد الوسائل المناسبة التي تخدم هذه العملية، مع كل ما يتطلبه ذلك من حذر بشأن إمكان نشوء واقع من سلطة تتعايش مع الاحتلال في ظل هذا الوضع. على أية حال ليس للفلسطينيين ما يخسرونه في هذه المحاولات (إذا استثنينا فئات محدودة تعايشت مع امتيازات السلطة)، ذلك أن هكذا سلطة لم تنه الواقع الاستعماري والاستيطاني والعدواني في الأراضي المحتلة عام 1967، بل إنها طمست هذا الواقع، من دون أن تتمكن حتى من إنتاج كيانية سياسية للفلسطينيين، قادرة على التواصل والصمود والتطور. وبالنهاية فإن إسرائيل هي التي تخشى انسداد كل الخيارات التي تؤول إلى إقامة دولة مستقلة للفلسطينيين، وهي التي تخشى واقع التحول نحو خيار الدولة الواحدة، وليس الفلسطينيين، الذين بالتأكيد سيبقون هنا. * كاتب فلسطيني