يتعلم الطلاب في المدارس كتابة موضوعات «التعبير» أو «الإنشاء»، وذلك – نظرياً - بغرض تنيمة قدارتهم الإبداعية، وتشجيع مواهبهم التعبيرية، وتحفيز طاقاتهم الفكرية. لكن الغرض الحقيقي من هذه المادة كان - ولا يزال، وعلى الارجح سيبقى – تنمية قدراتهم النفاقية، وتشجيع مواهبهم الببغائية! «أكتب بما لا يزيد عن عشرة أسطر أهمية مبادئ القومية العربية التي أرساها الزعيم جمال عبد الناصر» تحولت إلى «أكتب بما لا يقل عن عشرة أسطر عن ثورة التصحيح التي قام بها الرئيس المؤمن محمد أنور السادات»، ومنها إلى «أكتب موضوعاً عن دور مصر أكتوبر الذي أنجزه بطل الحرب والسلام الرئيس محمد أنور السادات في معاهدة السلام مع إسرائيل». وبعد سنوات قليلة، تحول كل ذلك إلى «أكتب بصيغة تعبيرية جميلة عن الضربة الجوية الأولى وبطلها الرئيس محمد حسني مبارك ودورها في إتمام نصر أكتوبر العظيم»، ولحق بها «أكتب 15 سطراً عن دور سيدة مصر الأولى السيدة سوزان مبارك في دعم مكتبة الإسكندرية لتعود منارة علم وتثقيف للعالم». ويتندر البعض اليوم قائلين إنه لو تأخرت ثورة يناير لطلب من التلامذة المصريين كتابة 20 سطراً عن «دور السيد جمال مبارك في محاربة الفقر ودعم الفقراء من طريق تقنية المعلومات الحديثة». «التعبير» أحد المواد الرئيسة في مادة اللغة العربية المقررة لكل طلاب المدارس في مصر، ويجري منذ عقود طويلة غرس مبادئ الكتابة القائمة على: انتقاء الأفكار وترتيبها، والبلاغة في التعبير عن الأفكار، وتجنب الأخطاء الإملائية والنحوية، مع ضرورة استخدام شواهد سواء من الشعر أم الآيات القرآنية أم الأحاديث النبوية. أساتذة يفرضون رأيهم وفي خضم امتحانات نصف العام الدراسي التي تجري حالياً، ذخرت أوراق الامتحانات بالكثير مما يمكن أن يطلق عليه «مواكبة روح الثورة»، لكن كل حسب رؤيته. معلمة اللغة العربية في إحدى مدارس محافظة الشرقية رأت ضرورة أن يهنئ كل الطلاب «حزب الحرية والعدالة على حصوله على المركز الأول في انتخابات مجلس الشعب». وبالطبع لم تتوقف المعلمة التي وضعت الامتحان عند احتمال ألا يشعر الطالب بالرغبة في التهنئة، أو أن يكون حزيناً لهذا الفوز، أو ربما كان يرغب في فوز حزب آخر ويرى أن هذا الحزب قد يضر بمصلحة البلاد. وزاد الطين بلة سؤال النحو، إذ جاءت العبارة المطلوب إعرابها واستخراج نعت ومضاف إليه وحال على الشكل التالي: «تمر البلاد بمرحلة انتخابية ناجحة تتنافس فيها أحزاب أهدافها مختلفة للوصول إلى البرلمان، وفي المقابل شاهدنا الثوار، بل المفسدين يدمرون تاريخ البلاد، حيث أحرقوا المجمع العلمي الذي يضم نخبة من الكتب النادرة، ورجع المخربون وقلوبهم فرحة». وعلى رغم أن صوغ السؤال بهذا الشكل ليس إلا انعكاساً لضبابية الرؤية، والخلط الواضح، وبعضه مقصود والبعض الآخر غير مقصود، بين الثوار المطالبين باستكمال الثورة وبلطجية دخلوا على الخط الثوري، يبقى أن تلك الجملة تفتح الباب أمام الخطوط الفاصلة، أو تلك التي ينبغي أن تفصل بين تشجيع التلامذة على المشاركة السياسية، وإجبارهم أو إخضاعهم لعملية غسيل دماغ تجعل كلمة الحق هي تلك الصادرة عن الحزب الحاكم، أو النظام القائم، أو السلطة الآنية. وعلى ذكر السلطة، فقد وجد طلاب مدرسة ثانوية في مدينة سمنود أنفسهم في مواجهة غير متوقعة مع سؤال إلزامي يطالبهم بكتابة «رسالة إلى المجلس العسكري المصري يشكرونه فيها على حمايته للثورة المصرية وتصميمه على حماية البلاد من كل عميل وطامع على رغم ما تعرض له من إهانات»! وفي مدرسة ثانوية في محافظة قنا، وردت العبارة التالية في حصة اللغة الإنكليزية: «في تعبير عن الاحترام، يجب أن نرفع القبعة للجيش المصري، وهو من أهم المؤسسات فى مصر، ودور الجيش الرئيسي هو الدفاع عن الوطن فى مواجهة أي خطر... فتحت قيادة هذا المجلس المحترم تم إجراء الانتخابات المصرية التى مرت بنجاح، ويعتبر هذا الأمر من أعظم الإنجازات. وبعد تنحي مبارك شهدت مصر العديد من الإضرابات والاحتجاجات، وكان أمام الجيش المصري أحد خيارين: إما استخدام القوة لإيقاف هذه الاحتجاجات، أو الاستماع إلى أصوات الاحتجاج. وقد اختار الجيش الخيار الثاني». وإذا كان الجيش أمام خيارين، فإن طلاب مدرسة ثانوية في محافظة الجيزة لم يكن أمامهم سوى خيار واحد فقط، هو التعامل مع سؤال «النحو» القائل: «إن ما يقوم به حزبا 6 أبريل وكفاية من محاولات للوقيعة بين الجيش والشعب المصري، والادعاء بأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة بقيادة المشير طنطاوى ورجاله المخلصين، من فلول النظام السابق، متجاهلين حماية الجيش لثورة يناير وتجنب مصر الفتن والمؤمرات والمكائد وتدخل الغرب فى شؤون البلاد، بغية ضرب الاستقرار وتقسيم مصر إلى دولتين، كما هو الحال فى السودان الشقيقة، وليبيا، وسورية، أمر يتطلب الحذر والحيطة وعدم الانسياق وراء هذة الفتنة الضالة ذات الميول العدوانية والأجندات الخارجية والاغراض الشخصية». وبغض النظر عن قدرة أي متخصص في اللغة على إعراب هذه الفقرة، يبقى أن الموقف السياسي الواضح فيها والرافض لغيره من المواقف هو المشكلة الفعلية. ويقول الخبير التربوي الدكتور مسعد نصر: «مهمة المدرسة ليست تسييس الطلاب، بل المساهمة في تدريبهم منذ الصغر على الممارسة السياسية المتحضرة، التي تبدأ بتعلم أسس الحوار، وسماع الآخر، وكيفية التعبير عن المعارضة، وطريقة التعبير عن الرأي. أما أن نزرع في النشء بذور النفاق للحاكم، أو نسيِّسهم في اتجاه ما لأنه يتواءم ورأي المعلم أو واضع الامتحان أو حتى وزارة التربية والتعليم، فهذا مرفوض تماماً». السياسة موضوع مؤجل وعلى رغم مطالبة وزارة التربية والتعليم جميع واضعي الامتحانات بالابتعاد عن الأسئلة المتعلقة بالثورة أو الدين، إلا أن التصريح الصادر في هذا الشأن من وكيل وزارة التربية والتعليم لشؤون التعليم العام رضا مسعد، جاء ليكحِّلها فأصابها بالعمى! وقال: «لم تتضح الصورة السياسية فى البلاد بعد، لذا ينبغي عدم استخدام المدارس فى الترويج لأى فصيل سياسي»، مضيفاً أنه «ربما نتكلم عن الأمور السياسية مستقبلاً، بعد استقرار الأوضاع». هذا الكلام المفزع قد يعني أنه بعد استقرار الأحوال السياسية في البلاد سيسمح لواضعي الامتحانات والمناهج بإقحام السياسة عبر الترويج والتأييد للنظام، ولكن بعد التأكد من أنه سيكون قائماً، حتى لا يهدر الوقت في نفاق نظام أو فصيل سياسي لا يكتب له طول البقاء. واللافت إن الناشط السياسي وائل غنيم قال في سياق حديث إعلامي حول الموضوع: «أنا لست مستعداً أن يطرح على ابني سؤال في امتحان التاريخ يقول: «لماذا فشلت ثورة 25 يناير؟».