في واحدة من يقظاتهم الموسمية، انتبه اللبنانيون إلى مئات المباني الوشيكة السقوط المنتشرة بين شوارع المدن والقرى، وإلى جسر حيوي على الخط الساحلي ربما ينهار بين ساعة وأخرى. وبعد سقوط 27 ضحية، منهم 11 من اللبنانيين، في كارثة ضربت بناية من سبعة طوابق في ناحية فسوح الفقيرة من منطقة الأشرفية، تبين لمواطنينا أن الأبنية القديمة التي يحتوي أكثرها على مخالفات هندسية-إنشائية أو انتهى عمرها الافتراضي منذ زمن بعيد من دون إجراء الصيانة اللازمة لها، تتوزع على الأراضي اللبنانية، وأن ما جرى في الأشرفية قد يتكرر في مناطق لا تمت بصلة طائفية أو سياسية أو مناطقية لتلك المنطقة. لقد شعر الناس بأن ثمة ما يجمعهم ويعرّضهم جميعاً للخطر هو السكن في بيوت غير آمنة. بيد أن مشاعر كهذه لم تكن يوماً كافية لحمل اللبنانيين على تجاوز انقساماتهم العمودية لمصلحة لحمة طبقية منشودة. لا نهاية الوظيفة التي اجترحها اللبنانيون لاقتصادهم الهزيل كوسيط بين المستوردين العرب والمصدرين الغربيين لأنواع شتى من السلع والخدمات، ولا تهاوي المؤسسات الحكومية التي أنشئت في الستينات والسبعينات بغرض توفير شبكة أمان اجتماعية، ولا موجات المهاجرين الشبان من حَمَلة الشهادات أو أصحاب الكفاءات، نجحت في إقناع اللبنانيين بأن النظام السياسي الحالي بات عقبة أمام تقدمهم الاجتماعي ورفاههم المادي. وإلى جانب أنظمة الأمان البديلة التي بنتها أحزاب وتيارات وهيئات طائفية عدة والتي تنفق ملايين الدولارات لامتصاص عديد الحالات الاجتماعية الصعبة (التي قد تشوّه صورة الطائفة وزعاماتها في عيون الأتباع والخصوم سواء بسواء)، ثمة اعتقاد راسخ بين شرائح من اللبنانيين يتلخص في أن أي تغيير سياسي، في أي اتجاه كان، أي نحو التخفيف من السمات الطائفية للدولة والمجتمع أو، بالعكس، صوب إعادة تقسيم السلطات بين الطوائف، سيؤدي إلى اشتعال الحرب الأهلية مجدداً. وفي مقابل ثراء الأدبيات التي تحدثت عن طرق للخروج من الأمر الواقع الذي كرسه اتفاق الطائف منذ 1989، وانطوائها على اقتراحات تبدو جذابة لكسر حلقات النزاعات الأهلية المفرغة التي تعيد إنتاج صراعات عمرها من عمر الاجتماع السياسي اللبناني، يمكن الحديث عن فقر مدقع في وسائل نقل هذه الاقتراحات إلى حيز الواقع. وفيما تتراجع محاولات تعديل «الطائف» بجذبه صوب افق مدني ديموقراطي، تتصاعد الأصوات الداعية إلى إعادة النظر فيه وفق موازين القوى الحالية و»التفاهمات» الانتهازية التي تتحكم بالمشهد السياسي منذ منتصف العقد الماضي. الأخطر في النظر من الزاوية هذه، هو فرض التساوي بين الإصلاح السياسي (وأبعاده الاجتماعية والاقتصادية الملازمة) وبين استئناف الحرب الأهلية التي تتردد تهديدات صريحة ومبطنة بأنها ستكون مذهبية وعلى مقدار من الشراسة لم تشهدها جولات الاقتتال السابقة. وقد يبدو مبرراً ربط كل محاولة للخروج من الجمود الحالي في صيغة العلاقات الأهلية اللبنانية، بعودة العنف الطائفي، في وقت تترسخ خطوط انقسام مناطقي تتلاءم مع الانتماءات الطائفية في أنحاء البلاد. بل إن بعض «الممارسات الثقافية» المكرسة لتميز الجماعة عن غيرها، راحت تنتشر وتجد من يدافع عنها وعن أصالتها وحق كل طائفة في الحفاظ على النوع والمذهب والهوية الطائفية- الجهوية، على نحو يذكّر بطرح المؤرخ البريطاني إريك هوبسباوم عن «اختراع التقليد» كعنصر مشارك في بلورة الخصائص المميزة للجماعة ومقدمة لاستقلالها السياسي. تنهض الممارسة الفئوية هذه، كنقيض تام لفكرة المجتمع المتعدد في إطار وحدة الدولة. ليس لضيق هذه وبَرَمِها بحقوق الجماعات في التعبير عن هوياتها، بل لاحتلال الهويات الفرعية (الطائفية والحزبية) مكانة تتقدم وتعلو على الانتماء إلى الدولة، ما يؤدي إلى عجز أجهزة هذه ومؤسساتها، حتى تلك المفترض بها ممارسة القسر والإكراه، عن القيام بأدوارها والتنحي لمصلحة مؤسسات الطائفة ومصالحها. وتدرك رؤوس الطوائف اللبنانية هذه الحقيقة، وتعمل بها بذرائع شتى تمتد من «المقاومة» ضد «السبي الجديد» على ما يقول القائمون على الأمور في الجنوب وضاحية بيروت والبقاع، إلى التصدي لخطر التمدد الديموغرافي -العقاري للشيعة في الجبل، إلى الخوفين السني والمسيحي من تنامي القوى المنافسة. ويجري كل هذا على وقع اهتراء الدولة كمفهوم وكمؤسسات، وفي وقت لا تتورع فيه العصبيات الطائفية عن انتزاع أي جزء تستطيع من الدولة وإدخاله في آلية استخدامها الخاص ومنافعها. ويعرف اللبنانيون منذ أعوام طويلة أن الإدارة العامة مقسمة بين الطوائف ومراكز القوى، وأن التوظيف في أجهزة الدولة شبه مستحيل إن لم يتم عبر الباب الطائفي المناسب. ورغم الإعاقة الواضحة لسير أعمال الإدارة والخطر الجلي لانتشار الفساد في هكذا بيئات، إلا أن جانباً مهماً من «السياسة» في لبنان يتعلق بالكيفية التي يجري فيها تقاسم الإدارة كخطوة أولى ضرورية في عملية أهم، هي نهب المال العام وتوزيعه على القبائل اللبنانية. الصخب الذي ترد به هيئات المجتمع المدني على هذه الحقائق والتغطية الصحافية لواقع المجتمع اللبناني المتردي، لا يبدوان كافيين لإقناع القطاعات الأعرض من اللبنانيين بأخطار المسارات التي يغذون الخطو فيها. فالرد على مصالح ملموسة تقدمها الطوائف وقواها السياسية لا يكون بالوعظ الأخلاقي ولا بالفضح الإعلامي فقط، بل أن هذين لا يلبثان أن يشكلا جزءاً من آلية الفساد والنظام السياسي ما لم يترافقا مع عمل جدي لإقامة موازين قوى مضادة. ولعل النهاية التي وصلتَ إليها حملة إسقاط النظام الطائفي قبل عام، تكفي كدرس في هذا المجال.