بين يدي ديوان شعر مخطوط ورثته عن والدتي التي رحلت عنا، رحمها الله، في مثل هذا الشهر من السنة الماضية. والكتاب في أقل من مئة صفحة وبخط واضح أنيق، إلا أن بعض الكلمات محته السنون، فالقصائد تعود الى الفترة بين الأعوام 1864 و1920. الصفحة الأولى ضائعة، وربما كانت حملت اسم المؤلف، والوالدة التي كانت تقرأ الشعر وتناقشني في ما تحب، لم تذكر لي هذا الكتاب يوماً، وكيف وصل اليها، وإذا كان أول شعر لصاحبه يعود الى 1864، وإذا افترضنا أنه كان في العشرين، فهو بالتالي أكبر من أن يكون والدها أو جدّها، فهل هو جد الجد أو أنه من أسرة والدي. كم حزنت عند وفاة استاذيَّ العظيمين إحسان عباس ثم محمد نجم، والآن عاد الحزن عليهما لأنهما كانا قادرين على وضع الديوان في سياقه التاريخي، وعلى نقده شعراً وموضوعاً كما لا أستطيع أن أفعل. يقول الشاعر في أول صفحة واضحة: قلت في بداية نظمي: ولقد أقول لمن تملّك في الهوى/ قلبي وعذّبه بطول جفاء بالله جُدْ لي بالوصال تكرما/ كيما يُبدَّل حزنه بصفاء والديوان فيه غزل كثير، والمحبوبة اسمها هند والشاعر يتنقل بين ما أصبح الآن لبنان وفلسطين وسورية، وله قصائد قيلت في اللاذقية التي لم أكن أعرف أن لأسرتي علاقة بها، أما الشاعر فله فيها صديق اسمه الياس صالح، كما ان له شعراً يداعب به صديقاً آخر هناك هو ابراهيم أفندي حكيم، وهو يرسل قصيدة الى الخواجة جريس يني في القلمون. أما أخته فاسمها لوريس وله فيها رثاء، كما أنه رثى سنة 1868 والده من دون أن يسميه، وأبدى في رباعيات تتغير فيها القافية غضبه على الموت وهو يقول: شلَّت يداك فقد أوجعت بالطلب/ ونلت يا بَيْن مَن في غاية الأدب ويقول في مقطع آخر إنه كان مستعداً أن يبذل نفسه ليعيش والده، إلا أنه يعرف أن البَيْن لن يقبل. والديوان يعود مرة بعد مرة الى الغزل، والى هند تحديداً، ويبدو أنه اختلف معها يوماً فقال مُخمِّساً: وهل يا ذا الخؤون تظن أني/ أحبك رغم صدّك والتجنّي فقلبي لا أبيع ببيع غبن/ سيغنيني الذي أغناك عنّي فلا فقر يدوم ولا غناء وهو وضع آخر شطرين بين هلالين صغيرين اشارة الى أن الشعر ليس له، فهو قديم وينسب أحياناً الى الإمام علي بن أبي طالب في شعر له عن الأصدقاء والزمن. ومع الغزل هناك مقطعات اخوانية كثيرة، وله في حلب قصيدة يمدح فيها القهوة السوداء بعد أن لامه اخوانه على إكثاره من شربها. قالوا نراك مولعاً بالقهوة/ السوداء دون حدايق الفيحاء فأجبت لا لومٌ عليّ فإنها/ ببهائها تعلو على الجوزاء والشاعر مثقف يترجم شعراً عن الفرنسية الى العربية، ويكتب قصيدة ينهي الروي فيها بكلمات بالمعنى نفسه ويترجمها نقلاً عن الفرنسية. ثم انه ميسور فقد سافر الى أوروبا سنة 1912 وكتب عن السكة الحديد هناك وما رأى وقد ولّى الشباب: وقالوا ما الفرق بين الأسفار حالاً وقبلاً بين السياحة هذي/ وفي زمان تجلّى فقلت والطرف باكٍ/ على شباب تولى هذي الى العين أجلى/ وتلك للقلب أحلى ويبدو أن تلك لم تكن أول رحلة له الى أوروبا، ففي الديوان قصيدة تعود الى سنة 1882 يهنئ فيها «جلالة الملك خرستيان التاسع ملك الدنمارك بعيده الذهبي»، والمقصود مرور 50 سنة على زواجه، فيشير الى الملكة في قصيدة، طويلة مطلعها: بعيدك أيها الملك الهمّام/ أضاء الكون وانقشع الظلام وقرأت في الديوان قصيدة وطنية كلها نصائح لشباب عصره تعود الى سنة 1911، وأخرى سياسية قالها في حصرون سنة 1880 ومنها: هنيئاً يا بني عثمان قد نلتم المنى/ بدستور عدلٍ بالحسام تسطّرا إذا كان عصر الروم أزهى بقيصرٍ/ فذا العصر أزهى في نيازي وأنورا وهو يؤرخ شعراً بعض الأحداث ويؤرخ لدولة اسماعيل حقي باشا وتعيينه حاكماً، ويرسل برقية شعرية الى البطريرك غريغوريوس، وقبل كل هذا له قصيدة سنة 1865 تبدأ بهذا الشرح: وقلت هذه الأبيات بعد طلوعنا الى قرية بينو (في عكار) عند ظهور الهواء الأصفر. وأرجح أنه يتحدث عن الكوليرا والفرار منها الى بلدة وادعة مناخها صحي. أجمل ما في الديوان قصيدة غزلية في نهايته يقول فيها: بعينيك يا سلمى وفرعك يا هند/ وثغرك يا ليلى ووجهك يا دعدُ سقمنا ولا برءُ، ضللنا ولا هدى/ سكرنا ولا صحو، جُننا ولا رشدُ على أننا ما شاقنا العيش دونكم/ وتعذيبكم عذبٌ ولا منكم بدُّ ألا سامح الله الغرام فإنه/ لَقَاضي ظلام ما لأحكامه ردّ رققتمْ ظلمتمْ بنتمُ أو دنوتمُ/ صددتمْ وصلتمْ أنتمُ أنتمُ القصدُ ومن عجب الدنيا وأنتم جآذر/ نبيت لكم أسرى على أننا أُسْدُ نروم اقتراباً منكم فيذيبنا/ احتراق وإن بِنّا فيقتلنا البعدُ من هذا الشاعر؟ هل الأسماء والأماكن الواردة تحرك ذكرى عند أحد القراء؟ الدنيا صيف وسأحاول بعده أن أجد من يعرف الجواب.