يمتاز الرجل السعودي بأدوات تخزين «ذاكرة» صغيرة جداً، لدرجة أن غالبيتهم يؤمنون بأنهم ولدوا أثرياء، علماء، وأبناء ذوات، متناسين طفولة وجذوراً مكتظة بالتشرد، الشظف، وسيمفونية «شباشب» بلاستيكية تعزف «طق... طق... طق» مع كل خطوة في إيقاع مات ثم عاد مع أغاني رابح صقر. مارس سعوديون كثر حذفاً جماعياً لصور من أرشيف حياتهم، تحديداً تلك المتعلقة بالجلوس في حوض «ونيت» ذهاباً وإياباً إلى مدارس مبنية بالطين، صفعات آبائنا أمام أقراننا، بينما كنا جميعاً نتسابق في الاستجابة التفاتاً وانكساراً لكل صوت يأتي من بعيد ينادي «يا ورع». مرت أعوام، و«الورعان كبرت»، ككروش وقروش، لكن «صغرت»، «بكسر الصاد» ثم تم «صك» الذكريات بجدار النسيان، وأصبح ل «الورعان» أحذية «جورجيو أرماني» تستقبل بنعومة أقدام صديق رماني بنظرة احتقار عندما ذكرته بأشواك شجر «طلح»، وثياب ملونة تمتص «عرق» وتفرزه أبيض صلباً، ملحاً. يهرب جزء كبير مني من زمن «الورع»، فذلك باب تأتي منه رغبات «شاطحة» مثل الذهاب إلى أسوار مقبرة قريتنا بصراخ يسألهم «من أعطاكم حق الوصاية علينا آنذاك؟»، عندما كانت وجوهنا أصناماً متحركة تستقبل صفعات العابرين الراغبين في تخفيف توتر نفسي يصيبهم. يجلس سعوديون كثر في أحضان شاشات البلازما، ومباريات الدوري الأوروبي، غارقين في التحليل والمشاهدة بعيداً من جوارب محشوة بقطن أو قطع قماش كانت أنموذج «الكورة» الوحيد المتاح للعب كرة القدم في حجيرات أصغر من حظائر أسطبل خيل، حينها كنا نلبس الوهم بتفاصيله بما فيها أسماء «عبدالله غراب، وأمين دابو». دأبوا - في قريتنا - على اختيار «الموس» لإثبات أن هذا الصغير يتخلص من القمل والميوعة معاً، وأن النوم حال إلزامية موقتة لا تستلزم تخصيص غرفة وسرير، كذلك تطبيق حاذق لمبادئ متقدمة من الاشتراكية الأسرية حتى أصبحت الملابس «بما فيها الداخلية» حقاً مشاعاً. خرجت من قريتي بخبرات متقدمة لم تسهم يوماً في حيازتي على وظيفة مثالية، فلم يعد يعنيهم قدراتي المميزة بتنظيف «فانوس» خلال دقائق، أو «تلقيح نخيل»، ولا حتى سهر الليالي في سقاية أحواض البرسيم، أو حفر آبار المياه، ربما يوجد حظ وحيد للاستفادة من مهارات تثبيت «شبك» حول مزرعة لمنع الدواب من تطبيق الأخضر على اليابس. يراودني إصرار على صناعة «RE-UNION» احتفالية «لم شمل» لخريجي قريتي، يمنعني يقيني بأن لا أحد يريد أن يتذكر الجزء المظلم من النفق، أو أسئلة من نوع: «كيف حال أختك فلانة؟»، لأن عقوق ذكريات القرية جرف معه براءة أقوام كان دينهم الإسلام، وحياتهم اشتراكية حتى مع بعض حيواناتهم، فهناك لها أسماء، ومساحة للدردشة، وأقداح من الشاي، وأصوات تعاطف وحزن عند إصابة ماعز بمرض «يا ويحي عن زيتونة مريضة اليوم». [email protected] Twitter | @jeddah9000