أتذكر دائماً أثناء حياتي العملية مجموعة من النظريات التي تعلمتها خلال سنوات دراستي بمراحلها المختلفة، أو قراءاتي لاستشفاف كل ما هو جديد، لكن الحياة العملية تفاجئنا كثيراً بحقائق تختلف كثيراً عما اعتدنا على قراءته أو سماعه، تعد الخبرة العملية من أكثر الحقول العامرة بتلك المفاجآت والحقائق غير المتوقعة، التي لم يختبرها جيداً أو يقتنص عصارتها الحية إلا من تمرس كثيراً واختلط بدنيا الإدارة، المترعة بكل ما هو حلو ومر في آن واحد، والممتلئة بصنوف شتى من البشر والأنظمة والهياكل والبُنى الإدارية والتنظيمية. تحفل غالبية كتب التنظير الإداري بشرح النظم المتبعة لإدارة المؤسسات والتحكم فيها على أفضل نحو للحصول على أفضل النتائج، فهذا الموضوع من أهم المواضيع التي يتم دراستها على المستوى الإداري، وغالباً ما يتم تقسيم تلك النظم الإدارية لقسمين رئيسين هما: النظم المركزية، والنظم اللامركزية، والمقصود بالنظم المركزية تلك النظم التي تعتمد على تركيز اتخاذ القرارات والتحكم في المؤسسة في يد أعلى هرم السلطة الوظيفي، إذ يؤدي تجميع السلطات في يد عدد محدود من المسؤولين بالمؤسسة إلى توحيد الأسلوب الإداري بالمؤسسة ومن ثم إلى تسهيل إجراءات الرقابة والمتابعة وزيادة التنسيق بين وحدات المؤسسة المختلفة. قد يعتبر البعض أن أهم مزايا المركزية هو إتاحة الفرصة للأكفاء - عن طريق التعيين - لكي يتمكنوا من ممارسة عملهم من دون تشتت ومن دون الخوض في معارك وهمية بدعوى التشبث بمبدأ إتاحة الفرص للجميع. بيد أن كثيراً من الأدبيات الحديثة أصبحت تمجد في الآونة الأخيرة نظام اللامركزية في إدارة المؤسسات، باعتباره أحد الملامح المميزة لمؤسسات دول العالم المتقدم، التي تحتفي أكثر بروح المبادرة وبث روح الفريق والانتماء بين جميع أفراد المؤسسة من أسفل الهرم الوظيفي لأعلاه وليس العكس، وقد اعتبرها الكثير بديلاً للجمود والبيروقراطية وأحادية القرارات والفكر، المميزة للنظام المركزي الذي ساد من قبل لعقود طويلة. ولكن بعيداً من الأفكار والتقسيمات المتواترة في أدبيات الإدارة والشائعة بين منظريها؛ لا أعتقد أن هناك تعارضاً بين المركزية أو اللامركزية، إنهما بالأحرى ليسا نظامين متعارضين، فكل منهما قد يلائم بيئة غير تلك التي يلائمها الآخر، وقد يصلح أحدهما في سياق ما بينما لا يصلح الآخر فيه، فقد يتم تطبيق المركزية في مؤسسة فينتج عن ذلك تأخر إصدارها للقرارات وتعقد العمل وتشابك الإجراءات فيها، وقد يسيء رئيس المؤسسة استخدام سلطاته وصلاحياته فيعين في المناصب المهمة والحيوية من يواليه ويطبق أفكاره فقط، بصرف النظر عن كفاءته لشغل ذلك المنصب، فيحرم بذلك الأكفاء من ذوي الخبرة من المشاركة في سلطة اتخاذ القرار، فيسيء إليهم وإلى المؤسسة في الوقت ذاته، وقد يكون رئيس المؤسسة ذا شخصية كاريزمية، فعلى رغم استئثاره بسلطة اتخاذ القرارات إلا أن قوة شخصيته تمكنه من قيادة مؤسسته بحنكة وبسط نفوذه عليها بما يتلاءم مع الأفضل والمناسب لها. وقد تحاول إحدى المؤسسات تطبيق اللامركزية فينتهي بها الأمر للميوعة الشديدة في اتخاذ القرارات، وقد يسيء المسؤول فهم واستخدام اللامركزية فيلجأ إلى تفويض سلطاته كلها للتخلص من عبئها، ومن ثم إلى غض الطرف عن الأخطاء التي تحدث حوله وأمام عينيه لئلا يتحمل المزيد من المسؤوليات وكل ذلك تحت ذريعة أنه يطبق منهج اللامركزية في الإدارة، وهنا لا يهتم المسؤول كثيراً بمن يخول لهم صلاحياته ويأتمنهم على أعماله، بل ينصب جل اهتمامه على التفرغ للواجهة الشكلية لعمله والاستمتاع بمزاياها وفوائدها فحسب، بل الأغرب أننا قد نجد هذا النوع من المسؤولين يمنح تلك الصلاحيات ويسحبها طبقاً لغرض في نفسه وليس طبقاً للمصلحة العامة لمؤسسته، فقد يمنحها لأحد مرؤوسيه للتخلص من عبئها إلا أنه يقوم بسحبها عندما يكون هناك مصلحة شخصية لتنفيذ ما يريده في المحاباة أو مجاملة البعض. المركزية واللامركزية ليسا طرفي نقيض، إنهما منهج متكامل في الإدارة يضيف كل منه للآخر ويدعم بناءه، يعد المزج بين نمطي الإدارة هو أفضل طريقة حديثة لقيادة أي مؤسسة، ويتم هذا المزج طبقاً للسياق الذي يتم فيه مزاولة العمل نفسه داخل تلك المؤسسة، فلكل منهما مزايا لا تتحقق في المنهج الآخر، وهذا الإطار النظري يؤكده الواقع العملي، فليس هناك مركزية أو لا مركزية مطلقة، يجب أن تحاول كل مؤسسة أن توائم بين ما تحققه المركزية من الرقابة الفعالة على جميع أنشطة المؤسسة، وبين ما تحققه اللامركزية من سهولة ويسر وتدفق في العمل وتحرر في الفكر، ليجتمع لها مزايا المنهجين معاً، وتتمكن من تلافي العيوب الناتجة عن تطبيق كل واحد منهما على حده. أكاديمي وكاتب صحافي www.a-e-house.org