جميع الشواهد المستقاة من واقع التعليم العام في السعودية تحيلنا إلى حقيقة واضحة: مصير أي مشروع لإصلاح التعليم لن يكون أفضل من المشروعات السابقة ما دام يضع المركزية في قلب المعادلة ولا يضع اعتباراً للحوافز الفردية والمؤسساتية. التعليم العام في المملكة العربية السعودية ليس بحاجة إلى إصلاح المؤسسة الحالية وتطويرها بقدر ما هو بحاجة إلى مراجعة الجذور المؤسسية نفسها. لقد أنشئت وزارة التربية والتعليم في الزمن الذي كان فيه التعليم العام مجرد خدمة من الخدمات العامة المقدمة للمواطنين بموجب مسؤوليات الدولة. الآن أصبح التعليم العام رهاناً عولميّاً على طريقة نكون أولا نكون، ويجب أداؤه بإتقان لأن المعيار الذي نحاسب به جودة التعليم لم يعد محلياً. فقدر التلميذ السعودي الذي ولد في زمن العولمة ألا ينافس مواطنيه في نفس الدولة بقدر ما ينافس مجايليه في أنحاء العالم. القطاع الحكوميّ -مهما أتيحت له من صلاحيات إدارية وموارد بشرية ومادية- ليس بوسعه إحداث التغيير المطلوب في التعليم العام ما دام المعلم موظفاً حكومياً ذي سلم وظيفي جامد وحوافز معطلة للطموح، وما دامت المدرسة كياناً حكومياً تابعاً للقرار المركزي وليس صانعاً للقرار الذاتي، وما دامت دائرة التعليم في تلك القرية أو المدينة لا تقوم بعملها في إطار تنافسيّ ذي أهداف كميّة قابلة للقياس والمقارنة والمحاسبة بقدر ما تطبق إجراءات حكومية ثابتة وروتينية لا حرية فيها ولا إبداع. إن تطبيق منهجية تعليم موحدة على الجميع يعني تجاهل الفوارق الاجتماعية والثقافية والمادية التي تلعب أدواراً حاسمة في قدرة التلميذ على التحصيل العلمي. وفي ظل انعدام الصلاحيات اللامركزية، سيصعب على المعلمين ومديري المدارس ومديري المناطق التعليمية اتخاذ الإجراءات اللازمة لتجاوز هذه الفوارق وتوزيع الفرص العادلة. لاسيما وأنه في نهاية المطاف سيتنافس كل هؤلاء التلاميذ على مقاعد جامعية لا تفرق بين ظروفهم التعليمية المختلفة، وبالتالي ينتفي الدافع الأساسي وراء مركزية التعليم: وهو ضمان توزيع الموارد التعليمية بعدالة نسبية بين مدن المملكة وقراها، والمساواة بين الطلاب في فرصهم التعليمية بغض النظر عن الموقع الجغرافي لمدارسهم. واقعياً، حتى الدول ذات الأنظمة المتقدمة في التعليم العام -مثل فنلندا- تشهد تفاوتاً في مستويات الطلاب حسب خلفياتهم الاجتماعية. دور نظام التعليم هنا يكمن في الاستجابة لحاجات كل مدرسة على حدة بدلاً من تطبيق النظام بشكل شموليّ على جميع المدارس. فتكتفي الإدارة المركزية بتصميم نظام حوافز مستقل لكل مدرسة يناسب الظرف الاجتماعي السائد في موقعها الجغرافي، ثم تمنحها صلاحيات التطبيق وموارد التنفيذ ثم تمارس دورها الرقابيّ غير المباشر. إن هذا أدعى لتطبيق المساواة بين الطلاب في شتى مناطق المملكة العربية السعودية بشكل ديناميكي بدلاً من تعميم النظام ذاته على مدرسة يعمل نصف طلابها في الحقول المجاورة بعد انتهاء اليوم الدراسي وأخرى يغادرها طلابها كل مساء في سيارات فارهة. وبعكس ما قد يتبادر على الذهن، فإن التعليم اللامركزيّ قد يدفع إلى رقابة أدق على المال العام. وذلك لوضوح مراكز المسؤوليات وسهولة تتبع النفقات واكتشاف مواضع الهدر، وهذا ما يصعب تحقيقه في ظل الإدارة المركزية التي إن دققت في الإنفاق شحّت فيه، وإن لم تفعل تضاعف الهدر وضاعت المسؤولية. عن مثل هذه الفوائد (اللامركزية) للتعليم العام بذلت منظمة اليونسكو جهوداً بحثية مكثفة لبلورة الفكرة. وبقدر ما يعدّ التعليم اللامركزيّ حقيقة مطبقة بنجاح في دول كثيرة من العالم، ما زالت دول أخرى مترددة في تطبيق هذا النظام خوفاً من انفراط العقد، وضعف السيطرة، وتذبذب المنهجية التعليمية. نائبة مدير مؤسسة اليونسكو الدولية للتخطيط التعليمي، فرانسويس كاليوس، لخصت هذه المخاوف بوصفها ناتجة عن فهم سطحيّ للفكرة واختزالها في مسألة تنازل عن الصلاحيات المركزية، وهي التي يعضّ عليها المسؤولون بالنواجذ. وفي الحقيقة أن هناك أكثر من نموذج للتعليم اللامركزي. فمنح إدارات التعليم صلاحيات وزارة التربية يعدّ توجهاً لامركزياً، وخصخصة قطاع التعليم العام جزئياً أو كلياً هو نوع آخر من أنواع اللامركزية. وكذلك منح صلاحية إدارة المدارس لمجالس أمناء منتخبة كلياً أو جزئياً هو نوع شائع آخر. إن وزارة التربية والتعليم بالإضافة إلى المشروعات الملحقة بها، كمشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم العام وغيره، قادرون جميعاً على استغلال قدراتها الإدارية وصلاحياتها الحكومية ومواردها المادية بشكل أكثر فعالية عن طريق تصميم نظام لامركزيّ يناسب ظروف المملكة، وتوزيعها الجغرافي، ونموها السكاني، ومتطلباتها المرحلية، وطبيعة اقتصادها. والأهم من ذلك أنه يستجيب لمتطلبات كل مدرسة على حدة، على أن يكون النظام مدعوماً بنظام حوافز فعّال، ونظام رقابيّ مرن، ومعايير كميّة واضحة لقياس الأداء، ثم تترك للمدارس حرية الإبداع في تحقيق هذه المعايير بدلاً من إدارتها بشكل مركزيّ وشموليّ غير فعّال.