لم تكن مصادفة أن يكتب جان كوكتو في عام 1951، تلك المسرحية التي كانت بدت غريبة عن عمله ككل، لكنها بدت في الوقت نفسه ملائمة تماماً لروح تلك الحقبة. المسرحية هي «باخوس»، أما الحقبة فكانت بداية الحرب الباردة التي اندلعت ما إن حطّت الحرب العالمية الثانية أوزارها، ما أشعر الشبيبة في ذلك الحين، بأنها انما خدعت من جانب الأجيال القديمة التي لم تعد قادرة على مسايرة تطورات العصر وتبدّل الذهنيات. في ذلك الحين كانت الشبيبة الفرنسية مواطنة كوكتو، وغير الفرنسية في شكل عام، بدأت تدرك الهوّة الكبيرة التي تفصل عقليتها عن عقلية الأجيال السابقة عليها، معتبرة تلك الأجيال مبعث الحروب والتعصب والكراهية، وبالتالي منبع النظم الشمولية. وما كان لكاتب/ شاعر/ سينمائي/ رسام/ مفكر من طينة جان كوكتو، أن يجد نفسه بعيداً من مثل تلك الأفكار، قريباً من فكر الشبيبة، حتى وإن كان قد تجاوز الستين من عمره. في المقابل، لم يكن غريباً أو من قبيل المصادفة أن يكون كاتب عجوز محافظ من طينة فرانسوا مورياك، أول من يهاجم «باخوس» مرة حين قدّمت للمرة الأولى على الخشبة من جانب فرقة رينو - بارو، ثم مرة أخرى بعد ذلك بعام حين نشرت المسرحية في كتاب. وقد عاشت الحياة الفنية والثقافية الفرنسية خلال تلك السنوات على وقع الصراع بين مورياك وكوكتو، الذي انتهى سياسياً كما هي العادة في فرنسا، مرتدياً، اكسسوارياً طابعاً دينياً عبّر عنه مورياك ذو النزعة الديغولية - الكاثوليكية. ومع هذا لم يكن لمسرحية «باخوس» من البعد الديني - والسياسي أيضاً - سوى الشكل الخارجي. أما في بعدها الجوّاني فكانت معنية، أكثر من أي شيء آخر، بصراع الأجيال، وخيبة الأجيال الجديدة أمام امّحاء الوعود التي كانت كثرت يوم قدّم ملايين الشبان وقوداً لحروب كان يؤمل ان تليها حقب سلام وتقدّم في العالم، فإذا بالضحايا يموتون مرتين: مرة قتلاً في الحرب، ومرة قتلاً من طريق اجهاض الأحلام. أو هذا - على الأقل - ما كان جان كوكتو يفضّل ان يقوله حين يسأل عن هدفه من كتابة ذلك العمل. وقبل أن نتحدث عن المسرحية نفسها، لا بد من الاشارة هنا الى انها، وعلى عكس ما كان الأمر بالنسبة الى نصوص جان كوكتو الأخرى، لا تحوي طيبين وأشراراً... كل شخصياتها ومهما كانت انتماءاتها شخصيات طيّبة، ولكن هذه الطيبة تتوزع على نوعين: طيبة صارمة يمثلها جيل الشبان، وطيبة رخوة يمثلها جيل الكبار... وما الصراع داخل هذه المسرحية سوى صراع بين طيبتين، لا يخفي جان كوكتو موقفه بينهما. تدور أحداث «باخوس» جان كوكتو في المانيا، في عام 1523 الميلادي تحديداً - وليس في الزمن الاغريقي أو الروماني الذي تدور فيه المسرحية الأصلية التي ما كانت «باخوس» كوكتو، سوى اقتباس حرّ عنها -، أما المكان فهو مدينة ألمانية، لا اسم لها، تستعد بعد فترة وجيزة لانتخاب «باخوس» جديد لهذا العام، هو نوع من بابا مجنون، يعطى، وفق قواعد اللعبة، صلاحيات تامة، يمكنه أن يستخدمها على هواه طوال سبعة أيام كاملة. أما المجلس الذي تناط به عملية الانتخاب فيتألف من كبار المدينة: الدوق والمطران وكاتب العدل والعمدة، اضافة الى الكاردينال زامبي، الذي يرسله بابا روما الى المكان في مهمة خاصة تتعلق بمعرفة درجة ومستوى تطوّر أوضاع أتباع مارتن لوثر، لوضع الخطط اللاحقة لمجابهتهم. ونعلم منذ بداية المسرحية أن اولريخ، الابن الأكبر لدوق المدينة كان هو الذي انتخب في العام الفائت ليكون «باخوس»، لكنه ما فتئ أن انتحر بعد انقضاء أسبوع الكرنفال الذي يكون خلاله ذا صلاحيات... كما لو أنه لم يستطع أن يتحمل في النهاية فقدانه لسلطته ولصلاحياته. والحقيقة ان السلطات المدنية في المدينة تحاول هذا العام، انطلاقاً من مأساة العام الفائت، إلغاء اللعبة برمتها، غير ان الكاردينال زامبي يعارض الإلغاء. ويكون له ما أراد. وهنا تأتي كريستين ابنة الدوق لتقترح على أبيها أن يصار الى اختيار هانز، المجنون، باخوس جديداً لهذا العام. وبالفعل يتمكن الدوق في فرض انتخاب هانس، الذي كان قد فقد عقله بعد أن طرد وطورد من جانب الشبان الأثرياء في المدينة. صحيح انه دُعي لاحقاً لحضور حفلات تعذيب عدد من فقراء الفلاحين، ما أعاد اليه، تحت الصدمة، رشده... لكنه أبقى الأمر مكتوماً، وراح يتصرف أمام الآخرين وكأنه مجنون بالفعل. وها هو الآن، وقد بدأت المسرحية، وانتخب، ها هو يرمي قناعه ويبدأ بممارسة صلاحياته... ولكن في أي اتجاه؟ هنا بيت القصيد. ذلك ان هانس يبدأ أول ما يبدأ بنشر قيم التسامح، ويؤلّب الفقراء على الأغنياء، ويدافع، بالتضاد مع موقف الكاردينال الذي جنّ جنونه، عن نوع من المسيحية الأولى التي تنادي بالمحبة والاحسان والحرية والحب... غير ان هذه القيم التي يدافع عنها هانس ويدعو اليها، تجعله محط كراهية الجميع وحقدهم... ذلك انها بدلاً من أن تحدث في النظام القائم تلك الخلخلة التي تقوده الى الأحسن، تؤدي الى زعزعة العادات القائمة، والعلاقات الراسخة. وهكذا في اليوم السابع الذي تنتهي فيه مدة الصلاحيات ويصار فيه، وفق العادات المتبعة، الى إحراق دمية تمثل باخوس، نفهم بسرعة ان باخوس نفسه هو الذي سيرمى هذه المرة في المحرقة: أي هانس. وهنا يتنطح الدوق والكاردينال، اذ أثّرت فيهما، على رغم كل شيء، نزعة الصدق والنيات الطيبة التي تجلت في تصرفات هانس، يتنطحان لإنقاذه قائلين له ان كل ما عليه فعله لكي ينجو من الهلاك حرقاً، انما هو توقيع وثيقة بسيطة يستنكر فيها كل ما كان فعله ونادى به. لكن هانس يرفض التوقيع. فهو مؤمن بصوابية ما قال وفعل، وليس مستعداً للتراجع الآن، حتى ولو كلفه ذلك حياته... لسببين، أولهما انه ليس مستعداً لأن يذل نفسه أمام نفسه، وثانياً لأن ثمة حباً يربطه بكريستين وهو لا يريد أن يحنث بقسم هذا الحب الذي يتعلق أصلاً بمواقفه. وهكذا يقرر أن يسير الى الموت حرقاً وهو راضخ مرفوع الرأس محتفظ بكرامته ومواقفه. لكن لوثار، الابن الأصغر للدوق، وشقيق كريستين وصديقه، يقتله بنفسه موفراً عليه الموت حرقاً. غير ان هذا كله لا يمنع الكاردينال من أن يعلن أمام الجموع المحتشدة أن هانس/ باخوس، قد أعلن توبته قبل الموت... وكان من الواضح ان الكاردينال انما أطلق هذه الكذبة الأخيرة أملاً منه في أن يحافظ على صفاء النظام القائم، وعلى هدوء الجموع التي كانت بدأت تنقسم بين ناقم على هانس لأنه فعل ذلك كله، وبين ناقم عليه لأنه لم يمت، وبين ناقم ثالث لأن موته كان تضحية لا جدوى منها. وهكذا تنتهي حكاية باخوس، ويعود كل واحد الى بيته راضياً، في انتظار العام المقبل حيث يُنتخب باخوس جديد. أما الكاردينال فإنه يستعد للعودة الى روما، لكي يطمئن هناك سيده البابا الى ان الأمور مستتبة وأن جماعة لوثر انتهى أمرهم! واضح ان جان كوكتو (1889 - 1963) من خلال هذا العمل الذي يستند الى أسطورة باخوس القديمة المرتبطة بالخمر والشعر والجنون، انما أراد أن يقول أموراً كثيرة تتعلق بعصرنا الذي نعيش فيه. ويقيناً أنه نجح في ايصال رسالته كما اعتاد أن يفعل في عشرات الأعمال الأخرى التي أبدعها، شعراً وصورة وفناً سابعاً ورواية، وما تنديد فرانسوا مورياك به، سوى الدليل الأوفى على ذلك النجاح. [email protected]