عندما نشرت «الحياة» تفاصيل مساءلات هيئة مكافحة الفساد لأمانة جدة عن بعض المشاريع، انتظرت رد الأمانة بفارغ الصبر، وما قرأته يوم الأحد 14 صفر في صحيفة «الحياة» من توضيح لأمين جدة أكد لي خطأ تصور قديم عن آلية عمل أمانة جدة. كما نقول في تحليل الخطاب، اللغة لا يمكن مراوغتها وإنما هي التي تراوغ مستخدمها حتى «تكشف» الخبايا. رجائي من القارئ مراجعة توضيح الأمين والتركيز على هذه المفردة «اكتشف» فهي بيت القصيد. في مجمل خطاب أمين مدينة جدة حول تأخر تسليم موقع أحد المشاريع لمدة أربعة أعوام للمقاول، يوجد كلمتان تمثلان آلية العمل في إنشاء المشاريع بالأمانة، وما عدا ذلك كلام إنشائي بالمعنى السطحي لمعنى الإنشاء، وهذا يتواءم ربما مع عقلية الأمانة في الإنشاء. الكلمتان المعنيتان نجدهما في العبارتين الآتيتين: «إلا أنه عند تسلمه تبين وجود معوقات تحول دون تنفيذ المشروع»، و «إضافة إلى اكتشاف خطوط الوقود»، كلمتا «تبين» و«اكتشاف» هما آليتا عمل الأمانة، يتحمل سكان جدة شهوراً وأعواماً من المعاناة أثناء إنشاء المشاريع والأمانة في طور الاكتشاف، تختار المقاولين وتوقع العقود بالملايين ثم تبدأ في عملية الاكتشاف، هل رأيتم عربة أمام الحصان أكثر غرابة من عربة أمانة مدينة جدة؟ تحفر الأمانة لتكتشف ماذا تخبئ لها الأرض، بعد عشرات السنين من «الخبرات» والبلايين والمهندسين. لا تزال الأمانة تكتشف مكان المشاريع... اكتشفت الأمانة مثلاً، والاكتشاف غالباً يكون مفاجئاً، أنه بعد تصميم المشروع قامت جهة أخرى بإنشاء عبارة صندوقية للقناة الشمالية. اكتشفت الأمانة أن هناك من يعمل في مكان مشروعها وهي «لا حس ولا خبر» وكأنها تعمل في مدينة أخرى... اكتشفت الأمانة أيضاً وفجأة أن هناك شركات ضخمة، بل قد تكون الأضخم في العالم في مجالها، موجودة في جدة، ويعلم طفل العاشرة أن لها بالضرورة خطوطاً تحت الأرض، والمقصود شركة أرامكو، ومؤسسة تحلية مياه التي نسق معهما بعد الاكتشاف. سيكتشف، غدا ربما، في مشروع آخر أنه يوجد لدينا في السعودية شركات اتصالات هاتفية، وشركة كهرباء... حتى وإن كانت خدماتها لا تسر لكنه سيكتشف بعد الحفر وبالمصادفة العجيبة أن لها مشاريع تحت الأرض... سيكتشف أنه ليس الوحيد الذي يقوم بفتح الأرض لإنشاء المشاريع في جدة، وأن هناك من يعمل ويقوم بتمديد خطوط إمداد للمدينة كلها. تصرف الدولة بلايينها سنوياً لمؤسسات لا تزال تكتشف المكان، وعندما تكتشف أنها تورطت يكون الحل الجاهز الذي لا يحتاج لتفكير كثير: تغيير مكان المشروع، كما قال! وبكل هذه البساطة يبدأ مسلسل جديد من اكتشافات أمانة مدينة جدة، ربما يتاح لي هنا الفرصة لمساعدة الأمين في اكتشافاته فاطلب منه قيادة سيارته آخر الليل ليشاهد جدة بعيداً من برج الأمانة، سيكتشف ربما كيف تشوهت هذه المدينة من سنوات طويلة بسبب مشاريع الأمانة التي لا تتابع مقاوليها. سيكتشف أحياء ليست عشوائية أبداً ولكنها في طور التحول إلى ذلك، سيكتشف معايير جديدة لنظافة المدن، سيكتشف أرصفة عبث بها الزمن والناس والمقاولون، سيكتشف طرق تموج فيها السيارات من كثرة الهبوطات فيها «وذاك قد يخفي كوارث مقبلة». سيكتشف شوارع عبث بها الصرف الصحي من عمائر فقد أصحابها كل إحساس... سيكتشف أنه لا يزال في العالم أمانات كأمانة جدة وفي دول ثرية جداً كالسعودية تتبع آلية الري ب «الوايت» لما تبقى من شوارعها وما تسميه جزر مشجرة فيها. سيكتشف مشاريع جسور وأنفاق تم الانتهاء منها ثم تم إغلاق بعض مساراتها... هذا غيض من فيض سيكتشفه الأمين سريعاً جداً فور زيارة جنوب وشرق وحتى بعض أحياء غرب جدة، وقريباً جداً شمالها البعيد. كنت أعتقد أن الأمانة بما لديها من إمكانات وأموال تسير وفق خطط مدروسة وتنسيق مستمر مع جميع الجهات الأخرى في المدينة عند وضع تصوراتها لمشاريعها الكبيرة، وهذا ما يعرف بالضرورة في عمل الأمانات. كنت أعتقد أن موظفي الأمانة يعلمون بوجود خرائط مشاريع لدى هذه المؤسسات والشركات يمكن الرجوع إليها لمعرفة مكان مشاريعهم بعيداً من آلية الاكتشاف اليدوية، وإن كانوا لا يعرفون فقد يساعدهم هذا المقال في اكتشاف ذلك، ما كنت أراه يومياً بعيني في جدة، وكنت أكذبه اعتباطاً، أكده لي خطاب أمين جدة، الأمانة تسير وفق آلية متخلفة، جدة بوسائل متقدمة وحديثة، هذا ليس تناقضاً فلا تغركم الوسائل الحديثة فالإشكال في العقل، الأمانة يا سادة مثلها مثلنا نحن سكان جدة تكتشف، نحن المنتظرون لكل مشروع نسعى لنكتشف كيف يصير وهي معنا، وإن انتظرنا أربعة أعوام ولم يتم شيء فقد اكتشفنا أنه لم يتم شيء، وعندها تكتشف هي أيضاً أنه لم يتم شيء فتكتشف أنه يمكن نقل مشروعها إلى مكان آخر، فندخل معاً في مرحلة اكتشافات أخرى، ولمزيد من الاكتشافات، أفيدكم اليوم أني اكتشفت أن الأمين أراد أن «يكحلها فعماها». * أكاديمي سعودي. [email protected]