لا قوة لحنية على الأرض تنتزع المصري من فراشه حصيراً كان أو وثيراً، من سعف النخيل أو ريش النعام، عقب يوم طويل من المجهود والصراع من أجل لقمة العيش، سوى صوتين: صوت أمه الحنون وصوت «المسحراتي» الجهوري المتعدد الطبقات صعوداً وهبوطاً، أجشّ كان أو حاداً، طربياً أو نشازاً... لا يهم فهو صوت الضمير الذي يوقظ العقل من غفوته ويدفعه إنسانياً أو دينياً، كاظماً غضبه ممتصاً ثورته، ملجماً غيظه، نافضاً ثورة أحلامه، ملبياً النداء. المسحراتي، هذا الرجل النحيل المسكون بإيقاعات شعبية وتراثية ودينية، يبثها في أصداء الليل قاطعاً الشوارع والطرق والأزقة والحارات القديمة، بطبلته الصغيرة ودقّاتها، ينادي «اصحى يا نايم وحّد الدايم... الشهر صايم والفجر قايم، اصحى يا نايم... رمضان كريم...». قرون عدة وما زال الرجل يطوف بطبلته يدقها، قاطعاً سكون الليل، لا يترك منزلاً إلا دق طبلته أمامه منادياً أصحابه بالاسم بصوته الجهوري وذبذباته البعيدة المدى، الكثيرة الألوان، بتنويعات لحنية مرتجلة ومشحونة بالمشاعر، يدعو الناس منادياً منشداً في حماسة لا تنتهي. مدائح نبوية وأشعار شعبية وسِيَر السابقين وأهازيج مسجوعة بأسماء سكان الحي وألقابهم وأسماء أولادهم بكثير من المبالغة والمجاملة أملاً في مكافأة. ولا تخلو أناشيده من مواعظ وأذكار داعياً الناس للاستيقاظ من النوم لتناول السحور، وقد يتوسله آخرون لأهداف أخرى كالنداء على طفل ضائع أو الدعاء لحبيب مسافر. ثلاثون يوماً بالتمام والكمال هي أيام شهر رمضان، وتضاف إليها ثلاثة أيام للعيد هي عمر مهنة المسحراتي التي لا تحتاج إلا لمؤهلات بسيطة أهمها الصوت الجهوري، والذاكرة الجيدة لحفظ الأسماء، والقدرة على الارتجال. وقد اختلفت المهنة شكلياً من مكان إلى آخر إلا أنها ظاهرة عربية بامتياز لا يخلو منها بلد عربي. بدأ المسحراتي بمصر في عهد الخليفة المنتصر بالله (222-248 ه) عندما لاحظ والي مصر عتبة بن إسحق عزوف الناس عن السحور، فأمسك عصا خشبية عام 238ه وطاف شوارع القاهرة يطرق أبواب النائمين يدعوهم للتمسك بسنة الرسول عليه السلام. وبمرور الزمن انتشر كتقليد إلى بقية الدول العربية، ثم تطور المسحراتي على رغم محافظته على الشكل التقليدي من الجلباب والطبلة (البازة) والدقاقة. واختلف المسحراتي المصري، البحراوي عن الصعيدي عن البدوي، فهو يغنى مرتجلاً في القاهرة ويدق الأبواب في الإسكندرية وينادي بالمدائح النبوية في البادية (الواحات والمناطق الصحراوية). واختلفت العطايا التي تقدَّم إليه ما بين بيضة ورغيف ورطل سمن في القرى، حتى قروش زهيدة ومكسرات وحلويات شرقية في المدينة. وبتطور الزمن استطاع العديد من الفنانين والمخرجين والشعراء، أن ينقلوا صورة المسحراتي بشكل دقيق إلى ميكرفون الإذاعة ثم شاشة التلفزيون، ليجسدوا الشخصية بحسب بلدتها ومنطقتها. وكانت البداية كالمعتاد في الإذاعة المصرية مع أشعار فؤاد حداد وصلاح جاهين وصوتَي كارم محمود وسيد مكاوي (عام 1964)، وجسدها أيضاً التلفزيون المصري... وصدحت أصوات العديد من المطربين بأهازيج المسحراتي مثل إيمان البحر درويش وعلي الحجار وإيهاب توفيق وأخيراً حمزة نمرة. ومع كثرة الوسائل التكنولوجية التي تساعد الإنسان على الاستيقاظ كالمنبه والموبايل والآيباد والتابلت وغيرها، والتي يمكن أن نحمّل عليها تطبيق المسحراتي بدقات طبلته وأهازيجه ومدائحه بأصوات المطربين، باتت هذه المهنة التراثية مهددة بالاندثار. كما أن تغير نمط الحياة وثورة وسائل الإعلام، جعلا الناس يسهرون إلى الفجر يتنقلون بين برامج المنوعات وعشرات المسلسلات الرمضانية فلا يحتاجون إلى مسحراتي. وتجدر الإشارة إلى أن ثمة محاولات للحفاظ على هذا التقليد، فهناك بعض الأصوات المسحراتية التي لا تزال تجوب شوارع الريف والأحياء الشعبية في إصرار كبير على المقاومة، خاصة أنها تجد من يتقبلها، وأخرى حديثة نذكر منها «مسحراتي الغيتار»، وهو شاب يحمل غيتاراً يمر به بين منازل الطبقات الراقية يغني مدائح النبي ويدعو الناس إلى السحور في إطار عصري.