كان على السينما الأميركية ان تنتظر عقوداً عدة قبل ان تكتشف ان الهنود الحمر، ليسوا فقط عصابات من القتلة راكبي الخيول المهمهمين بعبارات غريبة ملؤها الكراهية والعدوانية. كان على تلك السينما ان تنتظر طويلا قبل ان تفهم، وتفهم جمهورها العريض معها، ان ذلك الشعب الذي سمّي هندياً في شكل قسري، كان هو صاحب المكان قبل ان يصل إليه الرجل الأبيض. طبعاً كان في المكان متسع للجميع، ومع هذا نعرف ان الأبيض أصر على انتزاع كل شيء بالقوة والعنف، لكنه حين صوّر تاريخ المكان وتاريخه الخاص في ذلك المكان حرص على ان يقول ان «الهنود الحمر» كانوا هم دائماً، من اعتدى، مبرراً المجازر التي ارتكبت في حق ذلك الشعب الذي كانت جريمته انه تآخى مع الطبيعة في شكل لم يعهده أخوه الأبيض. في هذا الإطار، عرفت السينما الأميركية تاريخاً طويلاً وعريضاً يتألف من أفلام «الغرب» وأفلام «رعاة البقر» التي عمدت دائماً الى تصوير الحلم الأميركي، على صورة البطل الفرد المنقذ... والمنقذ بخاصة لأبناء جلدته من عدوانية «عصابات الهنود». وقد كان جون فورد واحداً من كبار الذين حققوا ذينك النوعين من الأفلام. ولعله كان واحداً من قلة عرفت كيف تطوّر موقفها من الهنود، بين اول افلام «غرب» حققها («حصان النار» 1924) وبين آخر ما حقق في ذلك المجال («خريف الشايين» 1964). ففي الأفلام الأولى تم التعامل مع الهنود الحمر وكأنهم حيوانات أدغال معتدية، أما في الأفلام الأخيرة، فأعيد إليهم اعتبارهم وراحوا يعاملون معاملة انسانية. فيلم جون فورد «عربة السفر» («ستايجكوتش») يتوسط المرحلتين، وينظر إليه عادة على ان في داخله، إن لم يكن فكرة اعادة الاعتبار الى الهنود الحمر وإنسانيتهم، فعلى الأقل خطوة على تلك الطريق، من خلال نزع هالة «القديسين» عن البيض انفسهم، حتى في تجابههم مع هجوم الهنود الحمر عليهم. وإذا كان هذا الفيلم قد نظر إليه على انه، تقنياً وفنياً، واحد من اجمل افلام الغرب الأميركي وأقواها، فقد نظر إليه ايضاً من الناحية الفكرية على انه يشكل منعطفاً في التعامل مع قضية الهنود، حتى من دون ان يكون منصفاً معهم إنصاف افلام لاحقة مثل «الجندي الأزرق» و «جيريميا جونسون». تدور احداث «عربة السفر» خلال سنوات ثمانينات القرن التاسع عشر التي كانت شديدة الاضطراب في تاريخ الولاياتالمتحدة. وكما يدل عنوان الفيلم، فإن العربة التي تجرّها الخيول والتي كانت تقوم في تلك الأحايين بالرحلات بين المدن وبين الولايات، هي التي تلعب الدور الأساس في الفيلم. ومنذ البداية نجد عربة الركاب هذه وهي تستعد لاجتياز مناطق هنود الأباتشي في ولايتي يوتاه ونيو مكسيكو. وتحسّباً لأي طارئ، لا سيما لهجمات يمكن توقّعها من جانب الفرسان الهنود الذين ما كانوا ليستسيغوا عبور البيض المتطفلين أراضيهم، يخفر مسار العربة مجموعة من خيالة الجيش الأميركي كانت هي في الأصل تقوم برحلة الى مدينة لوردسبرغ. لكن الذي يحدث هو ان العربة ما إن تصل الى منتصف طريق رحلتها حتى يختفي أفراد الخيالة الذين كانوا يخفرونها. وهنا تتوقف العربة ليدور سجال بين الركاب هدفه معرفة ما اذا كان على العربة ان تتابع سفرها او تعود الى حيث انطلقت. ويكون ذلك التوقّف والسجال، فرصة تمكّن جون فورد من دراسة طبائع الركاب وشخصياتهم بوصفهم، بالنسبة الى منطق الفيلم كله، ممثلين نمطيين في معظمهم للأميركيين في ذلك الحين. فهناك مندوب لبيع المشروبات الروحية، وفتاة هوى تريد الهرب من تهجمات روابط الفضيلة عليها، وطبيب يمضي وقته في احتساء الكحول، وزوجة ضابط حامل، ومغامر محترف، اضافة الى مصرفي ها هو الآن هارب مع مبلغ من المال اختلسه من المصرف. انها، في مجموعها شخصيات نمطية، سنعود ونلتقيها دائماً، مجتمعة او مفردة في الكثير من افلام «الغرب» الأميركي. أما هنا، بالنسبة الى جون فورد وفيلمه، فإنها معبّرة ليس فقط عن نمط الشخصيات التي «بنت الغرب وبنت اميركا في شكل عام»، بل عن اخلاقيات شعب بأسره. وكما سيقول مارتن سكورسيزي لاحقاً في مجال حديثه عن فيلمه «عصابات نيويورك» من «ان اميركا إنما ولدت في الشارع»، يبدو جون فورد هنا وكأنه يقول ان الأميركيين ولدوا، وولدوا معهم حلمهم، من حثالة الغرب الأميركي... وهنا، كما يحدث عادة في قصة لغي دو موباسان، ستنقلب الأدوار تدريجاً بالنسبة الى مجريات الأحداث، في مجال التعبير عن اخلاقيات كل شخصية. فمن بدا أول الأمر حثالة سيبدو الأكثر نبلاً، ومن كان في البداية يرتدي قناع النبل، سينكشف حثالة. ومع هذا، فإن جون فورد لم يركز على هذا البعد تماماً... انه يبدو لديه من نافلة القول. اما المهم هنا، فكان بالنسبة إليه تقديم فيلم سينمائي يشد انتباه المتفرجين ويؤسس لنوع من أنسنة افلام الغرب. وفي يقيننا انه نجح في هذا تماماً لا سيما خلال ما تبقّى من احداث، وحين ينضم الى الركب رنغو كيد، وهو لص معروف وخارج على القانون، تبدو تصرفاته، منذ وصوله، مشبوهة. إذاً، نصل هنا مع احداث الفيلم الى النقاش الذي يسود من حول متابعة الرحلة، فيجرى التصويت في نهاية الأمر لمصلحة المتابعة، على رغم ان المسافرين واثقون من ان ثمة الكثير من الأخطار ستحاول ان تسد عليهم درب المتابعة. وبالفعل، سرعان ما تتوالى تلك الأخطار، كما تتتابع الأحداث والحوادث الصغيرة، بما في ذلك وصول زوجة الضابط الحامل، الى منتهى حملها واضطرارها الى وضع وليدها في العربة على الطريق. وهنا تبدو فتاة الهوى اكثر انسانية من الباقين في إسراعها الى المساعدة... واللافت هنا هو ان المسافرين، بعد انجلاء خطر الوضع عن السيدة، يبدون وكأنهم بدأوا يصدقون حقاً انهم باتوا خارج دائرة الخطر، ويتنفسون الصعداء ليعود كل واحد منهم الى طبيعته الأولى، بعدما كان تصرف فتاة الهوى الاندفاعي قد أنسنهم بعض الشيء. ولكن هنا بالذات، يحل بينهم الخطر الأكبر: يبدأ هنود الأباتشي بشن هجوم كاسح عليهم... ويكون هذا الهجوم مفصلياً، ليس كمعركة غير متكافئة اول الأمر، وحسب، ولكن ككاشف لحقيقتهم، اذ من جديد نجد جبن البعض وشجاعة البعض الآخر على المحك... تظهر بطولات من حيث لا يتوقع احد، ويبدو الجبن في غير المكان المنتظر فيه. والأغرب هنا هو ان النساء هنّ اللواتي، ازاء ما يحصل، يبدين القدر الأكبر من الشجاعة. المهم ان الأمور ستنتهي في ختام الأمر على خير، حيث في الوقت الذي تكون فيه الذخيرة نفدت تماماً من المسافرين الحاملين اسلحتهم، ويبدو فيه هنود الأباتشي وقد صاروا في وضع يؤهلهم تماماً للقضاء على العربة ومسافريها، يصدح صوت النفير المعلن ان فرقة من الخيالة وصلت لتنقذ العربة التي كان ركابها باتوا على آخر رمق. يعتبر هذا الفيلم، كما اسلفنا، واحداً من اكبر كلاسيكيات سينما «الغرب» الأميركي. وعلى رغم ان دادلي نيكولز كاتب السيناريو، اقتبسه من رواية اميركية معروفة، فإن كثراً من النقاد والباحثين عثروا بسهولة على تأثيرات دو موباسان في عوالمه. اما المشهد الأشهر في الفيلم، فهو - بالطبع - مشهد الهجوم الذي يشنه الهنود. ومع هذا، فإن اهم ما في هذا الفيلم هو انه يعبّر عما شغل دائماً بال جون فورد: عن مجموعة من الناس تجد نفسها ذات لحظة موضع تهديد. وجون فورد (1895 - 1973) الذي يعتبر من كبار مخرجي السينما الأميركية بأفلام بدأ تحقيقها في عام 1917 ليتواصل عمله حتى سنوات حياته الأخيرة، إرلندي الأصل، ومع ذلك يعتبر سيد افلام «الغرب» و «رعاة البقر» من دون منازع. وإذا كان «العربة» اشهر افلامه، فإن ذاكرة المتفرجين تحفظ ايضاً عشرات الأسماء لأفلام ابدعها، جمعت بين الشعبية والتقنية العالية والنبل الأخلاقي. [email protected]