في مطلع العام 2007 دفع اليّ الصديق زياد منى صاحب دار قدمس الترجمة العربية لكتاب الأستاذ توفيق فهد الصادر عام 1966 بعنوان: الكهانة العربية قبل الاسلام، لكي أراجع الترجمة، وأكتب مقدمة للنشرة العربية للكتاب. وقد أعجبتُ وقتها بالترجمة، وأردت الاتصال بمؤلف الكتاب لتجديد العهد به، فقيل لي إنه شديد المرض. أما الآن فقد توفي الأستاذ فهد عن عمر عال، تاركاً خمسة كتب وعشرات الأبحاث، ونشرة علمية لكتاب أركاميدوروس في تفسير الأهرام، وهو الكتاب الذي ترجمه العرب قديماً عن الاغريقية، والمترجم هو العالم المشهور والمترجم الكبير حنين بن اسحاق العبادي. أما الراحل توفيق فهد فهو من أصل سوري/لبناني. وقد حصل على الدكتوراه في اللغات السامية من السوربون، وقضى حياته العلمية كلها أستاذاً للعربية والساميات بجامعة ستراسبورغ. ويمكن اعتباره أحد المؤسسين لعلم الاثنولوجيا العربية. فبحكم براعته بالعربية، ومعرفته الجيدة بلغات سامية عدة في مقدمها السريانية، تجوّل بسلاسة في العوالم السامية خلال ثلاثة آلاف عام (من ضمنها الألف الأولى من عمر الاسلام)، دارساً بطرائق الإطاحة من جهة، والتأويل من جهة أخرى الدثائر والنصوص والنُظم والمصطلحات الزراعية (= الفلاحة النبطية)، وأفكار وممارسات الألوهية، والسحر والشعوذة وطرائق استطلاع الغيب، وكهانة الملوك، وظاهرة النبوة، وإفصاحات الشعراء. وبذلك حقق أمرين: إثبات الاستمرارية والوحدة العميقة في عوالم المشرق القديم والوسيط، والخروج من الفيلولوجيا الضيقة والحصرية القائمة على التفسير المعجمي للألفاظ والمفردات ومقارنتها في شتى اللغات السامية. عند فهد صارت المفردات مفاتيح، ومداخل لاستكشاف نُظُم ومنظومات. وعنده انكشفت العلائق العميقة بين الأرض والانسان. وعنده ما عادت الصحارى البعيدة منعزلة عن محيطها الشامي والعراقي والمصري والآرامي. وعنده ما عاد النبيّ ارتقاء عن كاهن، بل صارت النبوة تبصّراً من ضمن الاستمرارية التاريخية والثقافية. انشغل توفيق فهد منذ مطالع الستينات بثلاثة موضوعات يطل بعضها على بعض: المصطلحات الزراعية لدى الآراميين والسريان (والعرب)، وعوالم الآلهة عند العرب (والساميين)، ومسألة تفسير الأحلام في الموروث الشرقي والعالمي في العالم القديم، وعلائقها بالكهانة من جهة وبالنبوة من جهة أخرى. في المسألة الأولى درس الباحث علائق الانسان بالأرض من خلال المفردات والتعابير المستعملة في اللغات السامية، واستكشف في هذا الصدد أبعاد مصطلح النبط والأنباط، وهل تعني الفلاحة والفلاح، ثم لماذا اعتبرت الفلاحة نبطية في المؤلفات العربية، وماذا يعني ذلك في نطاق الثنائية: نبطي/ بدوي فبدوي/ حضري، وبالتالي ما علاقة النبطي بالحضارة (= الثقافة المادية)، في مقابل الثقافة المادية للبدوي؟ وبالوسع القول إن دراسات توفيق فهد لهذه الناحية عمقت معرفتنا الاثنولوجية والانتروبولوجية بعوالم الشرق القديم، وامتداداتها في الثقافة العربية والاسلامية القديمة والوسيطة. وفي الوقت الذي كان زملاؤه مهتمين بالآثار وبالأمائر الأولى لتدجين الحيوانات، اكتشف هو الشيفرات اللغوية واللسانية لتعبيرات اللغة عن علائق الأرض بالانسان والانسان بالأرض، وسواء كان ذلك الانسان بدوياً أم فلاحاً. وقد افاد فهد من تقديم علم الآثار لإثبات التواصل القومي (وليس التقاطع) بين البدو والنبط أو أهل المَدَر وأهل الحَضَر أو الحجر. فهناك أنصاف البدو وأنصاف الحَضَر، وهناك الميل لدى البدوي للتحول الى حَضَري وليس العكس. وهو عندما يعادي الفلاح فلأنه يريد الحلول محله، وليس لأنه يكره نمط حياته. والنظرية الخلدونية في قراءة علائق البدو بالمدن ضرورية عنده لفهم تلك العلائق في تاريخ الشرق القديم، وفي تفسير ظهور الاسلام. واهتم توفيق كثيراً بالوثنيات السامية وبفكرة الإله الأعلى، الذي تساعده أو ترجع اليه مجموعات كبيرة من الآلهة الصغرى التي ترمز اليها الأصنام والأوثان. بيد انه شأن علماء آخرين ما استطاع ادخال انسجام بين هذا التصور والتصور الثلاثي للآلهة: بعل، عشتاروت أدونيس - أو ايزيس وأوزوريس وحورس. وقد كان هناك تصور سائد من خلال النقوش السبئية، والدثائر الباقية في كتاب الأصنام لابن الكلبي، أن الأرض الحرام والحمى والحوطة، إنما هي تعبيرات عن الحرم المقدس القائم من حول الوثن أو المعبد. وقد أكد فهد على هذا التصور وجلب عليه مئات الاستشهادات. إنما اليوم هناك من يقول إن تلك الحُرمات ربما ما كانت أكثر من أماكن أو أسماء لأماكن وليست لآلهة أو معابد. وعلى أي حال، فإن بحوث الوثنيات ما تزال تتقدم، ولا بد من مراجعة بحوث توفيق فهد وغيره في ضوء المستجد من الأبحاث. وهام توفيق فهد طويلاً بمبحث الحُلُم لدى الشعوب القديمة، وامكانيات تفسيره وتأويله. وتأتي أهمية ذاك المبحث عنده من أن تأويلات الحُلُم وقراءاته إنما تعبّر عن رؤية الانسان لنفسه والعالم من حوله، ودوره في ذاك العالم، وموقعه في الحياة الفكرية والنفسية للانسان العربي وانسان الشرق. ورغم التقدم لديه في مسألة رؤية العالم، فقد ظل يعتبر العبريين والعرب نموذجاً للرحّل البدائيين الذين يملكون بالكاد رسوماً وقواعد وثقافة حُلُمية. فقد أطل منها على ظاهرة أو مؤسسة النبوة لدى العبريين والعرب. ومن هناك أطل على موقع النبوة في الدين. وسحرته الكهانة والعِرافة بحيث ظل يتأملها في المدى نفسه الذي يتأمل من خلاله النبوة، لكنه ما توصل في بحوثه الى جلاء علائق الكاهن بالنبي، وربما ما كان يريد ذلك. عرفت الاستاذ فهد عام 1976 عندما زار مدينة توبنغن الألمانية التي كنت أحضّر في جامعتها للدكتوراه. وقد دعاه لزيارة المعهد الشرقي بالجامعة أستاذنا جوزف فان أس. وأذكر أن أكثر نقاشاته أمامنا دارت بينه وبين استاذ الدراسات السامية فالترميللر (الذي كنا نتعلم معه السبئية، أي اللغة العربية الجنوبية). وكان كل من فان أس وميللر يعتبرانه شطاحاً بعض الشيء. لكن ثقافته الواسعة، ومعارفه المتقنة للغات القديمة كانت ساحرة بحيث تغلّبت اطلاعاته ودماثته على كل الشكوك في شأن أطروحاته. وكنت عند زيارته قد قرأت كتابيه عن «الآلهة العربية في وسط الجزيرة»، وعن «الكهانة العربية قبل الاسلام». والكتابان عظيمان وساحران. ونبهنا هو الى بحوثه في الفلاحة النبطية. وما عدت أذكر من الذي اقترح عليه المقارنة بين النبوة العربية والنبوة لدى بني اسرائيل، فابتسم وقال: أنتم الألمان تريدون نصب فخ لي، إذ أن علماءكم من البروتستانت كتبوا مئات البحوث منذ ماكس فيبر عن النبوة لدى العبرانيين! توفيق فهد أولاً وأخيراً رجل علم ومعرفة وانكباب على البحث والكتابة، وقلما كان يحضر مؤتمرات أو يخرج من معزله. وعربيته مثل فرنسيته دقيقة وشفافة وفائقة في التعبير عن أفكاره وعن اطلاعه الواسع، لكنه كتب دائماً وحاضر بالفرنسية. بيد أن أكثر الاساتذة الفرنسيين والألمان والبريطانيين، من جيل الكهول، في الدراسات السامية والانتروبولوجية، إنما تعلموا على يديه. فيبقى له ذاك الدأب الذي لا يكل، وذاك الخيال الشاسع الباحث دائماً عن الاستمرارية وعن المشتركات، وعن الثابت والدائم «تحت السطح» في حياة الناس والمجتمعات وعرب الجاهلية والإسلام وهذا الشرق الشاسع والغامض!