يشهد العالم ولادة تكتل اقتصادي وسياسي وعسكري جديد هو الاتحاد الأوراسي. كانت فكرة الاتحاد الأوراسي أول ما وردت على لسان الرئيس الكازاخي نزارباييف عام 1994. ومبادئ الأوراسية كما قدمها أربعة: 1- المنفعة الاقتصادية؛ 2- التكامل المتعدد الجوانب؛ 3- التحرّك من الأصغر إلى الأكبر، بمعنى توحيد المنظمات السابقة لإقامة الاتحاد؛ 4- التنظيم التدريجي (خطوة خطوة)، أي توحيد البلدان تبعاً لجاهزية كل منها. أهو الحلم باستعادة الدولة السوفياتية؟ لقد كان الاتحاد السوفياتي وفق ألكسندر دوغين، رئيس «حركة عموم روسيا السياسية الاجتماعية» (أوراسيا)، دولة أوراسية عظيمة، لكن الأيديولوجيا السوفياتية لم تستجب لنداء العصر فراحت تنهار. ولو تم، وفق دوغين، التوجه إلى الفكرة الأوراسية آنذاك لربما أمكن تجنب المأساة. كان يمكن عدم الانقياد للغرب، بل المحافظة على عظمة قوة الدولة وتعديل تدريجي للأيديولوجيا التي فرملت تطور الاتحاد وأعاقته عن شغل مكان لائق في العالم المتغير بسرعة. مع انهيار المنظومة السوفياتية، سادت الاتجاهات الأطلسية المجتمع الروسي، وانتشرت القيم والنزوعات الميالة نحو أميركا. فحين كانت الماركسية لهجة أوراسية، بل «هرطقة أوراسية»، جاءت أطلسة روسيا نقيضاً كلّياً للأوراسية. وبما أن روسيا أسست منذ البدء على قيم أوراسية، لم يكن للإصلاحات الليبرالية الديموقراطية أن تأتي بشيء طيب. حالة أواسط التسعينات بدأت تتغير. فالسلطة الروسية بعد الجنوح الواضح نحو الأطلسة، بدأت تتفهم أن هذا الخط قاتل لروسيا. ففي الأعوام الأخيرة لإدارة يلتسن، لوحظت محاولات متواضعة لتلمس طريق آخر لإيقاف الانزلاق إلى الهاوية، والبحث عن شيء ما أكثر ملاءمة لمصالح الدولة. وفي هذه الفترة العصيبة تبين عجز المعارضة عن تطوير خط وطني – أوراسي. فمعارضة يلتسن تحولت إلى ظاهرة صوتية ونغمة من نغمات النظام الضائع في طرقات الغرب، واستمر ذلك حتى مجيء بوتين. ففي العام الأول من حكمه فُتحت الأبواب التي طالما أغلقت أمام القرع الملحاح لدعاة الأوراسية، وأعطيت كل المقترحات الأوراسية الضوء الأخضر، وصولاً إلى إعلان قيام الشراكة الاقتصادية التي كان دعا إليها نزارباييف وتعثر العمل بها نتيجة الأزمة الناشئة مع «الثورة البرتقالية» في أوكرانيا ومحاولة حكام الغرب الأوكراني الانفصال عن الشراكة مع روسيا. كان من المؤشرات المبكرة إلى انحياز السلطة الروسية الحالية إلى المشروع الأوراسي إعلان بوتين في 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2000، أنّ «روسيا دولة أوراسية». هذه العبارة انطوت على برنامج كامل. ولذلك فأوراسيو روسيا يدعمون اليوم بوتين من دون تحفظ، باعتباره زعيماً أوراسياً يجسد فلسفتهم وفكرتهم عن الدولة. في أول أيام 2011 تم التوقيع على الاتحاد الجمركي بين روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان، بالتوافق مع الشراكة الاقتصادية الأوراسية (يوروإس). وبنتيجة ذلك، وخلال الأشهر التسعة التي تلت، تطوّرَ التبادل التجاري بين هذه الدول بنسبة 43 في المئة، وكان قد تم التوقيع على اتفاقية الأمن الجماعي (أو،د،ك،ب) بين أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزيا وروسيا وطاجيكستان وأوزبكستان في 1992، كما عُزّزت بإنشاء قوة تدخل سريع مشتركة. وكانت أنشئت منظمة شنغهاي (شوس) ورابطة الدول المستقلة (س،ن،غ). وشكّل ذلك كله خطوات عملية نحو قطب قوي يعيد رسم خريطة القوة في العالم. وعلى رغم أنّ بوتين راح يُطمئن العالم إلى أن الحلف الجديد ليس موجهاً ضد أحد، عبّر سياسيون كبار آخرون، على طريقتهم، عمّا تخفيه ديبلوماسية الرئيس السابق - المقبل. فنشرت «الإزفيستيا» في 3 تشرين الأول الفائت مقالاً لبوتين عنوانه «مشروع تكاملي جديد لأوراسيا: المستقبل الذي يولد اليوم»، جاء فيه: «في الأول من كانون الثاني (يناير) 2012 سيبدأ الفضاء الأوراسي المشترك بين بيلاروسيا وكازاخستان وروسيا بالعمل فعلياً، ستلغى التأشيرات بين هذه البلدان، بعد أن ألغيت الإجراءات الجمركية، وسيتم لاحقاً اعتماد عملة موحدة، على طريقة الاتحاد الأوروبي». ويتساءل بوتين: ماهي رؤيتنا لأفق هذا المشروع؟ فيستبعد من حيث المبدأ فكرة استعادة الاتحاد السوفياتي بهذا الشكل أو ذاك: «من السذاجة التفكير بترميم أو نسخ ما بات ماضياً في التاريخ، ولكنه التكامل اللصيق على أساس قيمي وسياسي واقتصادي جديد يستجيب لمتطلبات التاريخ. نحن نقترح وحدة عابرة للقوميات وقوية من شأنها أن تصبح أحد أقطاب العالم المعاصر، وأن تلعب دوراً للربط بين أوروبا ودول آسيا والمحيط الهادئ الدينامية. وبالتالي، فالاتحاد الأوراسي سيشكّل مركزاً لعملية تكاملية تالية تشمل دولاً أخرى (...) فالاتحاد الأوراسي سيبنى على مبادئ تكامل أصيلة كجزء لا يتجزأ من أوروبا الكبيرة القائمة على قيم ديموقراطية وعلى قوانين سوق مشتركة». وموقف بوتين هذا كان عبّر عنه إيغور بانارين، المفكر السياسي وصاحب الألقاب الوازنة المقبل من مدرسة الاستخبارات السوفياتية والبروفيسور في الأكاديمية الديبلوماسية التابعة لوزارة الخارجية، في محاضرة له بعنوان «رسالة روسيا في التكامل الأوراسي - أيديولوجيا وممارسة» (12-9-2011)، معتبراً أن لروسيا دوراً مركزياً في إنقاذ العالم قبل كانون الأول (ديسمبر) 2012، الموعد الذي حدده لانتهاء حقبة الليبرالية الاستعمارية القائمة على ثلاثة حيتان (الدولار كعملة عالمية، وأيديولوجيا الليبرالية الكولونيالية، وقوة أميركا العسكرية)، عبر الصيغة الأوراسية التي تقترحها روسيا. وقد يكون من المفيد هنا استحضار كلمة بوتين في ميونيخ في 2007 حين أعلن انتهاء مساعي روسيا التقرب من الغرب، وبالتالي انطلاقها في غير اتجاه. وتضمنت كلمته، برأي سياسيين أميركيين، الصيغة الأكثر عدوانية تجاه أميركا في فترة الحرب الباردة. فقد قال بوتين: «أحادية القطب في العالم الحالي لم تعد مقبولة ولا ممكنة (...) الولاياتالمتحدة تملي على الدول الأخرى نظامها الحقوقي (...) روسيا دولة تاريخها يعود لأكثر من ألف عام وامتازت على مدى تاريخها بإدارة شؤونها الخارجية بصورة مستقلة، ونحن لن نغير هذا التقليد اليوم». وهكذا، وبصرف النظر عن أن يكون الاتحاد الأوراسي خطوة أولى نحو بناء تكتل نوعي جديد أم نحو استعادة الدولة القوية المفقودة، فإن قادته يضمرون له وظيفة الوقوف في وجه الغرب الأطلسي. فهل نشهد موجة جديدة من حرب باردة وفق نموذج عرفناه طويلاً بين قطبين؟ إنّه العالم يعيد تشكيل نفسه، كما يفعل على الدوام، وفق لعبة المصالح.