العام 2011 الذي ينصرم كان عام الانتفاضات العربية. هذا لم يكن حدثاً عربياً فحسب، إذ تصدَّر أحداثَ العالم بأسره في قاراته الخمس. في تونس البوعزيزي، التي شكلت أولى الشرارات، سقط الرئيس زين العابدين بن علي وغادر البلد غير مأسوف على فراقه. في مصر أُسقط الرئيس حسني مبارك وعائلته وشلته وسيق إلى المحاكمة وهو طريح الفراش. في ليبيا، وبمساعدة التدخل الخارجي، أنهي عهد معمر القذافي البادئ في 1969، ومعه انتهت حياة القذافي نفسه بطريقة بشعة، وتم ذلك كله بكلفة دموية كبيرة. أما في سورية واليمن، فلا يزال الصراع مستمراً بين انتفاضتي البلدين ونظامي الرئيسين بشار الأسد وعلي عبد الله صالح، كما لا يزال مفتوحاً على احتمالات التصعيد الذي يصعب أن يحول دونه «بروتوكول المراقبين» في دمشق، أو حتى الصيغة الخليجية للحل في صنعاء. سؤال البداية كان: لماذا الانتفاضات؟ أما الجواب الأشد تكثيفاً واختصاراً، فهو أن الشعوب العربية، على اختلاف تجاربها وأوضاعها، ما عاد في وسعها أن تتحمل أكثر مما تحملت، ذاك العيشَ في ظل الكبت والفساد اللذين يستفحلان يداً بيد. الحرية والخبز إذاً هما ما فجر الانتفاضات. أما سؤال النهاية، فلم ينضج الجواب عنه حتى اللحظة. صحيح أن تونس أجرت انتخاباتها العامة فيما تجريها مصر حالياً، وصحيح أن الأمور تبدو -أقله في البلد الأول- متجهة إلى بر الأمان، إلا أن ذلك كله لا يجلو الغموض الكبير الذي يطاول عدداً من القضايا الملحة: فأي دور سيكون للإسلام السياسي في هذه البلدان؟ وأين سترسو أوضاع الأقليات الدينية والمذهبية في المقابل؟ وكيف ستكون تجربة اللقاح الذي يحصل للمرة الأولى بين الإسلام السياسي العربي وبين الديموقراطية البرلمانية؟ أي دور في المستقبل سيكون للمؤسسة العسكرية، خصوصاً في مصر التي حكمها الجيش منذ 1952، وأي علاقة ستحكم تلك المؤسسة بالبرلمانات التي ستنشأ وبالقوى الإسلامية التي ستتحكم بأكثرياتها؟ وما هو الموقع الذي سيحتله في الوضع الجديد الشبان أبناء الفايسبوك والتويتر واليوتيوب والكاميرا المحمولة وباقي ثمار القطاعات الحديثة، ممن فجروا معظم الانتفاضات العربية؟ واستطراداً، كيف ستكون أحوال المرأة وحقوقها والمكتسبات التي سبق أن حظيت بها في بعض البلدان؟ وعلى ماذا سترسو العلاقات الأهلية بين مكونات المجتمعات ذات النسيج الوطني الضعيف أو الهش؟ وهل سيُظهر بعض المجتمعات عجزاً عن احتمال الجديد الذي أتت به -وتأتي- الانتفاضات؟ وإذا أخذنا في الاعتبار الوضع العراقي الناشئ وانعكاساته المحتملة على المشرق والخليج، جاز التساؤل عن مستقبل العلاقات السنية-الشيعية عموماً، واحتمال انجرافها إلى منحدرات من العنف والدم. ثم ماذا عن ذاك التقاطع بين النزاعات الإقليمية، وفي صدارتها ما يتعلق ب «الملف النووي الإيراني»، وبين مجريات الأوضاع الداخلية العربية كما تفتتحها الانتفاضات أو تتوجها؟ وكيف سيتأثر الموضوع الفلسطيني وما يُعرف بالصراع العربي–الإسرائيلي بما يجري في مصر وسورية، وهما البلدان الأوثق اتصالاً بمسارات ذاك الصراع واحتمالاته حرباً وسلماً؟ بل كيف سيتجاوب الفلسطينيون، في ظل انقسامهم الراهن، مع المستجدات العربية، وبالطبع كيف سيتجاوب الإسرائيليون؟ وما أثر هذه التطورات الضخمة على الأحوال الاقتصادية المتردية في بلدان الانتفاضات، وماذا إذا ما تقاطع التردي هذا مع ما قد تواجهه بلدان نفطية في المنطقة (خصوصاً العراق وإيران) من أحداث داخلية وخارجية؟ وأخيراً وليس آخراً، هل سيكون للانتفاضات دور في توليد هموم وصيغ ثقافية أخرى، وعلاقات مؤسسية (لا سيما في مجالات الإعلام وصناعة الرأي العام) مختلفة عما هو معهود؟ الأسئلة كثيرة، وربما علينا أن ننتظر عاماً آخر أو أكثر، قبل أن تتبلور شروط الإجابة عنها. لكننا في هذه الغضون، ومن خلال صفحات ل «الربيع العربي»، نقدم مساهمات في قراءة ما جرى، وفي التكهن بما يمكن أن يجري.