حين تهبّ رياح الرغبة، لا بدّ لها من مسارب تمرّ عبرها، شرعيةً أو غير شرعية. في الحالة الأولى، يكون الهبوب ليّناً، يُشبع الرغبة فتهدأ رياحها. وفي الحالة الثانية، ولدى تعذّر المسارب الشرعية، تبحث الرياح عن مسارب أخرى، فتصطدم بالهيئة الاجتماعية، وكثيراً ما يكون الهبوب عاصفاً يخلّف وراءه أضراراً، فتكون لإشباع الرغبة أثمان مؤلمة. تحقيق الرغبة، والبحث عن الحب، وملء الفراغ العاطفي هي التيمات التي تتمحور حولها «رياح الرغبة»، الرواية الأولى لنادين الأسعد فغالي (الدار العربية للعلوم ناشرون)، ناهيك بالمسألة النسوية التي تتمظهر في: الحب، الاغتصاب، الطلاق، جريمة الشرف، الخيانة، الحب خارج المؤسّسة الزوجية. وناهيك بازدواجيّة المعايير الاجتماعية في النظر الى هذه التمظهرات، تلك القائمة على التمييز بين المرأة والرجل أو بين المرأة الفقيرة والغنية؛ فالمرأة غالباً هي الضحية في علاقات غير متكافئة منسوجة في بنية اجتماعية ذكورية، والرجل غالباً هو الآمر الناهي. قد تبدو هذه المسائل مستهلكة في الرواية العربية النسوية، غير أن معالجتها روائيّاً هي ما تميّز رواية عن أخرى، وطريقة الروي هي ما تمنح الرواية، أية رواية، خصوصيّتها. حكايات فرعية تعالج نادين الأسعد فغالي هذه المسائل من خلال حكاية ياسمينة، الشخصية المحوريّة في الرواية، والشخصيّات الأخرى الفرعية المتمحورة حولها بحكاياتها الفرعية؛ فوجود هذه الشخصيات مرهون بوجود الشخصية الرئيسة. وإذا كان لكل شخصية فرعية دور تنهض به في الرواية، فنقع على: نينا الصديقة، راني الخطيب المغتصِب، فاطيما زميلة العمل، رالف المدير المغترّ برجولته، وائل الصديق والجار الوفي، باسم الذي يغلّف رغبته بغلافٍ ديني، جوليا ضحية التمييز العرقي، جاك الرجل الشهم المبدئي، رائد الزوج المنشغل بالسياسة، هاني الزميل القديم والحبيب الحالي...، فإن حضور هذه الشخصيات في حياة الشخصية المحورية جعلها متعدّدة الأدوار في النص، فنقع على ياسمينة: الصديقة، الخطيبة المحاصَرة المغتصَبة، المرأة الكسيرة، المرأة المهانة، المتفهّمة معاناة الآخر المتضامنة معه، الرافضة اغترار الرجل، الزوجة التي تعاني فراغاً عاطفيّاً، الإعلامية الناجحة، الحبيبة المنخرطة في تلبية نداء رغبتها وجسدها... وكل من هذه الأدوار يشغل مرحلة معيّنة في حياة ياسمينة، غير أنها تندرج كلها في إطار البحث عن الحب، وإشباع الرغبة، وتحقيق الذات، في معزل عن أوامر الهيئة الاجتماعية ونواهيها. في «رياح الرغبة» نوعان من الأحداث الروائية، على الأقل. ثمة أحداث تخضع لقانون السببية وتندرج في سياق طبيعي لنمو الأحداث وتسلسلها. وثمة أحداث تخضع لقانون الصدفة وتوجد من دون مقدّمات وإرهاصات غير أنها تترتّب عليها مضاعفات ونتائج تدخل في إطار النوع الأول؛ فاللقاء براني في المجمّع البحري في جونية شكّل بداية علاقة بينه وبين ياسمينة تكلّلت بالخطبة، وقيامه باغتصابها كان نقطة تحوّل في مسار العلاقة بينهما، ولقاؤها برالف مدير الإذاعة في الطائرة كانت له تداعياته لاحقاً، وتعرّفها إلى جاك في باريس كانت له تداعيات أخرى، وطرحُها سؤالاً على هاني في موقع العمل تمخّض عن تحوّلات في مجرى العلاقة بينهما، وسفرهما إلى باريس في دورة تدريبية كان القشة التي قصمت ظهر البعير في تظهير المكبوت وفتح مسارب لريح الرغبة، حتى إذا ما اكتشف الزوج التغييرات التي طرأت على ياسمينة بعد عودتها من باريس، ونجح في الإيقاع بها والحصول على اعتراف بعلاقتها بهاني، تتماسك بعد أن كادت تنهار، وتجيبه بأن رغبتها في الإشباع العاطفي والنفسي ما هي إلاّ نتيجة للفراغ الذي تخلّف هو عن ملئه. وهكذا، تُحمّل الرجل مسؤولية ما تُقدم عليه المرأة. تصدّر الرواية عن نظرة نسويّة لموقع المرأة الاجتماعي، وللعلاقة بين المرأة والرجل، فتقدّم وعياً حادّاً بالتمييز الذي تتعرّض له المرأة في مجتمع ذكوري؛ فالمرأة المغتصَبة تتستّر على اغتصابها خوفاً من الفضيحة، والمرأة الخائنة ينزل بها العقاب، والمرأة المطلّقة موضوع للقيل والقال، والمرأة المرتكبة جريمة شرف تُجرّم وتُعاقب. أمّا قيام الرجل بهذه الأعمال فقد يكون من لوازم الرجولة. وتبلغ هذه النظرة شأواً متقدّماً حين تحمّل الرجل مسؤولية كل ما تقوم المرأة، وكأن ما تقوم به هو ردُّ فعل دائم على فعلٍ ارتكبه الرجل؛ فياسمينة التي «لم تستطع أن تترك لفكرها وجسدها إلاّ حريّة التصرّف وفق غريزتهما فأسقطت جميع المعتقدات والمبادئ وتخطّت كل الحواجز والقيود...» (ص177،178) في علاقتها بهاني تقوم في نهاية الرواية بتحميل الزوج مسؤولية ما أقدمت عليه. أين هو دورها ومسؤوليتها إذاً؟ ألم تُقدم على ما أقدمت عليه باختيارها وتلبيةً لنداء الفكر والجسد؟ الإيجابية الإنسانية على أية حال، ثمة في الرواية نماذج إيجابية للرجل الداعم، المتفهّم، الشهم في علاقته بالمرأة؛ فوائل نموذج الصديق القديم والجار الداعم المساند، وجاك نموذج الرجل الذي يرفض استغلال المرأة أو نقل العدوى إليها، حتى هاني في حبّه ورغبته في المحافظة على أسرته في الوقت نفسه يعكس تفكيراً إيجابيّاً. وعليه، فالإيجابية في الرواية ليست حكراً على المرأة، والسلبية ليست مقصورة على الرجل. الإيجابية هي مسألة غير جنسية، وتتعدّى الجندر إلى الشخصية الإنسانية بحد ذاتها. في «رياح الرغبة» تنجح نادين في التغلغل الى نفسية المرأة وأفكارها، في حالاتها المختلفة، من خلال رصد شخصيات ياسمينة ونينا وجوليا...؛ فالمرأة تحب أن تكون محبوبة، مرغوبة، موضع اهتمام الآخرين. تفكّر في الانتقام إذا ما تمّ الغدر بها. ترفض الإهانة إذا ما أعرض أحدهم عنها. تشعر بالغيرة. يزعجها الفراغ العاطفي والنفسي فتحاول ملأه. قد تنساق وراء نداء الجسد ضاربةً بالقيود عُرض الحائط. ترغب في أن تكون الأولى في سلّم اهتمامات الرجل... هذا ما تقوله الرواية في خطاب روائي جانبَ التعقيد، وآثر التقنيات البسيطة؛ فاستخدمت تقنية الراوي العليم الذي تتوارى خلفه الكاتبة لتقول رؤيتها الروائية وإخراجها للأحداث، وراعت التسلسل بين الوحدات السردية المتعاقبة في خطٍّ غير متكسّر، فكثيراً ما تسلّم نهاية وحدةٍ سردية عملية السرد إلى بداية الوحدة التالية، وقد تكون بداية الوحدة الجديدة غير متّكئة على نهاية الوحدة السابقة، إلاّ أنه في السياق العام ثمة تسلسل وقائعي، وثمة تغييب لتقنيات من قبيل الاسترجاع والاستقدام، فما يحصل في النص يوازي ما يحصل في الحياة. وهنا، يصبح الروائي/الفني مشابهاً للحياتي/المعيش، وليس مفارقاً له. وإذا كان السرد يستأثر بالمساحة الأكبر في الرواية، فإن الحوار حاضر بدوره على مستويين اثنين؛ مباشر كما في الحوار بين ياسمينة وهاني، وغير مباشر كما في استعادة نينا ما دار بينها وبين باسم في إطار الحوار بينها وبين ياسمينة. وفي المستويين هو حوار يتراوح نصّه بين الجملة الواحدة والفقرة الطويلة، ويفيد في مضيّ الأحداث قُدُماً، أي أنه لا يراوح مكانه بل يُساهم في دفع حركة السرد إلى الأمام، على أن الحوار بين ياسمينة وهاني يبالغ في عكس المشاعر والأحاسيس، وينحو منحى رومانسيّاً مفارقاً للاتجاه العام للرواية. وهكذا، يتكامل السرد والحوار في روي الأحداث والسير بها نحو نهاياتها المرسومة. استطاعت نادين الأسعد فغالي في «رياح الرغبة» أن تطرح مسائل نسوية، على طريقتها، وبلغتها، ونجحت في أن توقظ الرغبة في القراءة، واستطراداً في الكتابة.