تدخل قراءات فكر محيي الدين ابن عربي وأضرابه في سياق إعادة قراءة التراث العربي الإسلامي، وتوظيفها لغاية إقامة بناء فكري وفلسفي، مميزين ومعاصرين، بخاصة أن ابن عربي يمثل إحدى الشخصيات النادرة التي شكلت معايير عصرها وعقائده، ويمتلك خطاباً ذا خصوصية، لا تجعله يقف خارج التاريخ ولا الجغرافيا، أي خارج الزمان والمكان، شأنه في ذلك شأن كل خطاب إنساني. وفي هذا السياق يمكن التعّرف على قراءة أحمد الصادقي لفكر ابن عربي في كتابه «إشكالية العقل والوجود في فكر ابن عربي» (دار المدار الإسلامي، 2011) التي تنطلق من خلفية أنطولوجية، تسود فيها الغلبة لنمط عرض الوجود على نمط معرفته، حيث يقدم قراءة لا يكون فيها الإنسان منفصلاً عن العالم ومتعالياً عليه، بل يكون فيها العالم جزءاً من ماهية الإنسان، والإنسان جزءاً من ماهية العالم. والغاية منها تتمحور حول فهم العلاقة المعقدة بين العقل والوجود في فكر ابن عربي. ولا شك في أن فكر ابن عربي عصيّ على الخضوع لمنهج محدد يقتضيه البحث الأكاديمي «الموضوعي»، بالنظر إلى أنه يدفع باللغة إلى الطرف الأقصى، الذي يتوجب عليها فيه أن تكشف عن كنزها الأول، الذي ليس هو التواصل، وإنما الكشف عن حركة الوجود والتجليات والصور ولعبة المرايا وغيرها، الأمر الذي يدفعها نحو الكشف عن إمكاناتها التعبيرية، حتى يبدو وكأن ابن عربي يقف بها عند عتبة الصمت الذي تفتتح به الإشارة، لذلك استند أحمد الصادقي في قراءته إلى ما تقدمه فينومينولوجيا الغياب، كي يقف عند نمط عرض الوجود في الإنسان وفي العالم، وتبيان مكانة العقل ضمن هذا العرض، وراح يدقق السؤال الذي تطرحه إشكالية العقل والوجود، بوصفها علاقة تفترض طرفاً ثالثاً هو الوجود الإنساني، أي هذا الوجود الموهوب الفهم، والذي له القدرة على تأويل الوجود، كي يفهمه ويفهم ذاته. أي يفهم العالم في نفسه ونفسه في العالم، شريطة عدم اختزال الفهم الإنساني في ما يقدمه العقل فحسب. وبغية تبيان دور العقل ضمن هذا الفهم، ينبغي أن تكون القراءة التي تتناوله هي أنطولوجية، لأن موضوعها هو الوجود، وهرمينيوطيقية، لأنها تريد أن تفهم الفهم الأكبري للوجود، وفينومينولوجية، لأن الذي يهمها هو نمط عرض الوجود ضمن هذا الفهم، بغية تبيان الكيفية التي بها يشكل العالم ظاهرةً في فكر الشيخ الأكبر، وليس المقصود اتهام هذا الشيخ أو تقديسه، لذلك يعتبر أحمد الصادقي أن معظم الذين يتهمون الشيخ، يتمحور اتهامهم حول ما يزعمون أنه عقيدة أكبرية، وهي وحدة الوجود، فيما يحاول تبيانه - من خلال كتابه - أن هذا المفهوم منهجي أكثر من كونه عقيدةً، بمعنى أنه طريقة في النظر، وليس دعوة إلى العبادة بمقتضاه. إضافة إلى تبيان أن فكر ابن عربي ليس مشتتاً كما يزعم الكثيرون، وإنما هو نسقي. وتتناسب نسقيته مع نظام الوجود، والنظام الثاوي في القرآن الكريم. ويجد الالتزام بفينومينولوجيا الغياب مبرره في ما يزخر به فكر ابن عربي من مفاهيم الظهور والغياب، والحضور والحجاب والبطون، والغطاء وكشف الغطاء، أو «التحجب واللاتحجب»، والصور ولعبة المرايا، وسوى ذلك. وجميع هذه مفاهيم تعانق فهم الوجود، بوصفه ظهوراً يحمل معه غياباً، حيث الغياب هو ظهور في مستوى الكشف، وفي مستوى إمكان مثالي، يؤهل إدراك العارف للصعود في مراتب الوجود، ونحو ما لا يظهر إلا في حجاب، وهو حجاب يحليه العقل بأدلته. غير أن فينومينولوجيا الغياب لا تهتم بواقعية، أو لا واقعية المعطيات، نظراً لاهتمامها بالكيفية التي تكون فيها معطاة في الفكر وفي الإدراك، وبالتالي يظهر العقل في هذه الفينومينولوجيا، باعتباره عقلاً برزخياً، لا يخشى التناقض، من جهة قوله عن الشيء إنه هو لا هو، ومن تكون له القدرة على معرفة ما هو الأمر عليه، هو أن يكون في عالم الجبروت. وقد رأى ابن عربي أن الحق سبحانه أقام للإنسان الآيات في العالم، وفي نفسه، بوصفها علامات على الطريق الذي يهدي إلى العلم بالوجود، من حيث هو وجود. اعترض فكر ابن عربي عدداً من الأسئلة التي طرحها عليه الواقع في زمانه، والتقى مع الفلاسفة في استخدامه لغة التواصل والإفهام والتبليغ، لكنه اختلف معهم في كيفية معالجته تلك اللغة، حيث تكشف الكيفية التي عالجها بها أنه لم ينشغل بتلبية مطالب العقل الفلسفي، من جهة أن ابن عربي كان رُؤْيَوِيًّا، ولم تمنعه نزعته الرُؤْيَوِيّة من العثور في فكره على نظام آخر، يتوافق فيه الفكر الأكبري مع لغة أخرى، في اتجاه بلوغ القمة الروحية. والمسافر نحو هذه القمة، يصير أعمى من دون رؤية تجمع شتات مفاهيم النظر، وتسمح بذلك لنفسها بالتحليق في الأكوان، مثل النسر يحلق عالياً في السماء. ويعترض أحمد الصادقي على القول إن ليس في فكر ابن عربي فلسفة، معتبراً أن الفلسفة ليست فقط ذلك الجهد الفكري، الذي يبذله المفكرون من أجل الكشف عن المشاكل المختلفة التي لا تنحصر في ما هو اقتصادي أو سياسي، وإنما تمتد إلى الجوانب الأخلاقية والروحية للإنسان، ومن دون حصر الفلسفة في بناء الأنساق، التي تذيب الاختلافات والفروق في الموجودات، حينذاك يمكن القول بفلسفة أكبرية ليست شرقية ولا غربية؛ لا تقيم نفسها على مفهوم موحد مثل وحدة الوجود. ذلك أن ابن عربي لم يقل بوحدة الوجود، لكن ذلك لا يمنع من اعتباره فيلسوفاً، كونه كان يقرأ، والقراءة جمع لشتات النظر وللتشتت المذهبي والعقائدي، الذي لعب فيه الفقهاء والمتكلمون دوراً مهماً، حيث يعني جمع شتات النظر أن عمل ابن عربي كان بمثابة تفسير كامل لما كان المتصوفة من قبله قد فهموه، من دون أن يتمكنوا من صياغته. أما التأويل في فكر ابن عربي، فهو يطرح مشكلة العلاقة بين الكلام الإلهي المطلق في الزمان وفي المكان، وقد أرده ابن عربي أن يكون تأسيسياً، لأنه يبتدئ من الحرف، بوصفه أول كل خطاب وكل لغة. وهو لا يتحرك في مجال مغلق، مثل مجال النحو والعقل والسياسة، بل في مجال مفتوح، يشهد عليه مفهوم ابن عربي عن القرآن الجديد أو تجديد القرآن. ولا تلغي تأويلية أو هرمينيوطيقا الشيخ الأكبر الظاهر على النحو الذي يقوم به الباطنيون، الذين يقتلون حرفية النص. وحجة ذلك هي أن الظاهر اسم إلهي مثل الأسماء الأخرى. وليس القرآن الكريم عند ابن عربي باطنياً محضاً ولا ظاهرياً غفلاً، وإنما هو وجود، نقرأه معرفياً وأنطولوجياً؛ نظراً للتماثل القائم بينه وبين الوجود، ونظراً لكونهما نابعين معاً من مصدر واحد وهو النفس الإلهي. ومن هذا النفس خرجت الأعيان والحروف، التي منها تشكلت الكلمات الإلهية إلى الحد الذي يمكن القول فيه إن القرآن وجود مكتوب بالكلمات، والوجود قرآن مكتوب بالأشياء والممكنات. ويكشف فكر ابن عربي عن رباعية الوجود، باعتبارها رباعية لا تقف عند مستوى الحديث عن العناصر الأربعة، والطبائع الأربعة، وعن الأخلاط الأربعة، بل تمتد إلى الحديث عن مراتب الوجود الأربع، والعوالم الأربعة، والأسماء الأربعة، والرجال الأربعة، وتمتد أيضاً إلى هرمينوطيقا القراءة؛ لأن القرآن الكريم ينبغي أن يعلم من أطراف أربعة، وهي الظاهر والباطن والحد والمطلع. وعليه اعتبر أن «لا فرق بين الأمور الأربعة لكل شيء وبين الأربعة الأسماء الإلهية الجامعة. الاسم الظاهر وهو ما أعطاه الدليل. والباطن وهو ما أعطاه الشرع. والأول بالوجود والآخر بالعلم». ويمكن القول إن ابن عربي هو من كبار المفكرين الأكثر إثارةً للانتباه، والأكثر عرضةً للنقاش في الدوائر الفلسفية والدينية في الحضارة العربية الإسلامية. وقد طبع التصوف بفكره الذي ينحو به نحو التأمل، وليس الاقتصار على التجربة الروحية، التي لا تفكر نفسها، لكن تفكيره التأملي مشكلة طرح إمكانية اعتباره فلسفة، تتجه إلى بناء نسق، أم مجرد جماع لعدد من التصورات والعلوم والمفاهيم، النابعة من تجربة إلهامية، تمزق النظام، ولا تقبل الدخول في توجه نظري معلوم المعالم والمنطلقات والفرضيات والتوجيهات العامة.