يذهب عبدالحكيم أجهر في كتابه «سؤال العالم» (بيروت، 2011)، بعكس ما هو شائع في الدراسات والكتابات التراثية بخصوص العلاقة بين الشيخين ابن عربي وابن تيمية، ولا يوافق الذين اعتبروا أن «ابن تيمية» هاجم «ابن عربي»، لأنه لم يقرأه أو يفهمه جيداً، معتبراً أن ابن تيمية قرأ ابن عربي عندما كان يعظم الشيخ الأكبر، وأعطى شهادة صريحة بصحة كتب الفتوحات المكية والدرة الفاخرة والكنة والمربوط، وفهمه إلى درجة أنه عقد حواراً معه، وصل إلى حد الاقتباس منه، وإلى حد تبني الكثير من مفاهيمه، وتوظيفها داخل تصوره الخاص عن العالم. ويسوق اعتباره بصرف النظر عن «العبارات الإنشائية، التي انتقد فيها ابن تيمية ابن عربي في شدة، واتهمه فيها بكل الاتهامات التي وجهت يوماً إلى ابن تيمية نفسه من طرف خصومه، لأنه يرى أن فكر ابن تيمية هو نوع من المصادقة الكبرى على فكر ابن عربي، الذي يتمتع بأهمية فائقة، كونه لا يشبه ما يفعله أتباع ابن عربي من قبول كل ما قاله الشيخ الأكبر، حتى لو لم يكن مفهوماً بالنسبة إليهم، وبصفتها مصادقة تصدر عن واحد من مؤسسي المرجعيات الإسلامية الكبرى، الذين وقفوا موقفاً نقدياً من الشيخ الأكبر، واستعاروا في الوقت نفسه معظم مفاهيمه الأساسية. ويدعم أجهر ما يذهب إليه في هذا الكتاب بالبحث المعمق في أعمال كل من الشيخين ابن تيمية وابن عربي، حيث يجد أن تعبير ابن عربي عن الأسئلة الثقافية العربية كان تعبيراً كشفياً، صوفياً، اعتقد فيه أن سؤال العالم وفق الشروط المحلية الشديدة الخصوصية لثنائية التنزيه والتشبيه الإسلامية مثلاً، يقتضي صوغاً للعالم تتجاوز المفاهيم التقليدية، وتطرح مفهوماً للحقيقة يختلف عن المفهوم، الذي يجعلها قابلة للتحصيل وفق منطق ذهني محدد. وبالنسبة للشيخ الأكبر لا يوجد شيء في العالم يمكن فهمه وفق شروطه الوضعية، وفق ما يبدو بخصائصه وأحكامه المحددة له، ذلك أن كل شيء يمتلك بعداً آخر، مفتوحاً على حقيقة أخرى، وبالتالي لا يمكن فهم العالم بمنطق أحادي أو وضعي. بالمقابل، كان ابن تيمية تعبيراً عقلانياً عن الأسئلة نفسها، حيث يمكن فهم العالم بالعقل، ووفق منطق الضرورة السببي، ولكن مع ذلك، فإنه غير قابل للإغلاق في نظام محكم ونهائي، لأن الأشياء لا تكتفي بتعبيراتها الوضعية، ولا يمكن رد العالم أو فهمه ضمن وحدة من أي نوع، لا وحدة كونية موضوعية، ولا وحدة عقلية تمركز العالم بالعقل ومفاهيمه. ويبدو أن المسألة المركزية عند ابن تيمية هي نفسها عند ابن عربي، وتتجسد في تفسير ظهور العالم على أنه مراحل متدرجة من التعين، وقد شرح ابن عربي عملية التعين، ورأى أنها تتم على مرحلتين. المرحلة الأولى تحصل داخل الذات الإلهية، والثانية تحصل خارجها، بمعنى أن التعين الأول يحصل داخل الذات عندما تتجلّى الذات الإلهية لذاتها بذاتها، الأمر الذي ينتج عنه الأعيان الثابتة. وفي هذا التجلي، الذي سماه ابن عربي الفيض الأقدس، تنتقل الذات من حالة اللاتعين إلى حالة الصور الفردية الثابتة، وهي نفسها الممكنات التي ما زالت هنا في هذه المرحلة ممكنات علمية. وفي المرحلة الثانية في هذا التجلي هو التجلي الشهودي، تنتقل فيه الأعيان من حالتها الصورية العلمية إلى حالة الوجود، وتصبح عندها الصور موجودات حسية. فالوجود عند ابن عربي هو بالنسبة إلى الموجودات حالة مكتسبة يفيض على الأعيان الثابتة، فيجعلها أعياناً موجودة، حسية. ويرى عبدالحكيم أجهر أن بنية فكر ابن عربي تنهض على مبدأين أساسيين هما، مبدأ الوجود ومبدأ أحكام الوجود، حيث الوجود هو الأكثر أصالة، ويسبق نظرياً أي شيء آخر في العالم. وهو في مرتبته الأولية لا يمكن تحديده. ولأنه كذلك فالعماء هو أقرب الأشياء له. والوجود في هذه المرتبة هو الباطن، والخفاء، واللاتعين. ويبقى كذلك حتى يظهر في صورة الموجودات، لأنه ينتقل – فقط - من خلال الموجودات الفردية من مرتبة الإطلاق والخفاء إلى مرتبة الظهور والتعين، ويصبح الوجود شيئاً يقع تحت الوعي. ومن الممكن صوغ الأحكام المنطقية التي تنطبق على الأشياء، بصفتها أشياء لها خصائص، أو بالأحرى أشياء لها أحكام. ويتمتع العالم، الذي يجعل من الوجود موجودات، بوضعية فلسفية مزدوجة، كونه من جهة أولى ينتمي إلى الوجود لأنه مظهر له، وهو من جهة ثانية مظهر الوجود وليس الوجود ذاته، ولا تجعل عملية التعين منه شيئاً آخر. إذاً، فالعالم أو الكون هو الوجود وهو ليس الوجود في وقت واحد. وهذه مسألة أساسية في فكر ابن عربي، وفكرة مركزية في بنائه للعالم. أما الأسماء الإلهية، فهي صاحبة الدور الفلسفي المركزي في ظهور الوجود، لأنها هي مناط التعين، الذي ينقل الوجود على مرحلتين من إطلاقه إلى تعينه. ولا تستنفذ الأسماء الإلهية في عملية التعين تلك الذات الإلهية، كما لا تستنفذ ذاتها كأحكام كلية، إذ على رغم التعين تبقى الذات ذاتاً، وتبقى فرضية الوجود المطلق قائمة، وتبقى – أيضاً - الأسماء الإلهية أحكاماً كلية واحدة غير متجزئة، مع أنها تتقيد في الموجودات الجزئية. وعليه، فإن نظرية التجلي التي قال بها ابن عربي، تجعل من كل شيء في العالم وجهاً من وجوه الحقيقة، حيث تبني نظرية التجلي نفسها على فكرة الشمول. شمول الوحدة الإلهية كلَّ شيء آخر، ولا شيء في العالم يستقل بنفسه عن مصدره، أو أن يوجد في العالم بعيداً من الوجود ذاته. وهذا يعني أن العالم كله مظاهر لحقيقة واحدة، حيث كل شيء في العالم هو حقيقي، لأنه صادر عن الحق، ولكن حقيقته نسبية لأنه مجرد مظهر من هذا الحق، وليس الحق نفسه. ويعتبر عبدالحكيم أجهر أن هذه النظرية تؤسس فلسفياً لفكرة تعدد لحقائق ونسبيتها، الأمر الذي يجعل كل عقيدة أو تصور يؤمن به البشر، يحمل جزءاً من هذه الحقيقة. فالبشر دائماً يؤمنون بشيء، وهذا الشيء لا يخرج بأي حال من الأحوال عن كونه ينتمي إلى الحقيقة، مع عدم إغفال الحقيقة الأصلية، التي تتجاوز مجمل الحقائق النسبية، ويسعى إليها الأفراد الذين يتمتعون بشروط الوصول لهذه الحقيقة. ويعتقد أن ابن تيمية الذي تبنى هذه المفاهيم من ابن عربي، كان على وعي تام بما تتضمنه من نتائج، وبأهدافها الحقيقية التي تقوم على دعوة التسامح. ولكن شيخ الإسلام كان محاصراً بشروط سياسية واجتماعية مضطربة، قلصت من منح هذه المفاهيم كل مضامينها الأصلية. وتتمثل تلك الشروط في الممارسات الدينية الخرافية، وضعف الاجتهاد، وجمود الأفكار، ووجود عدو خارجي تتري، يكرر محاولاته للسيطرة على بقية العالم الإسلامي. ويخلص عبدالحكيم أجهر إلى أن تردد ابن تيمية في إعادة صوغ تلك المفاهيم، يرجع إلى أنه كان يريد فتح باب التسامح، كما تقتضيه تلك المفاهيم، وفي الوقت نفسه كان يخشى أن يشكل ذلك شرعية لكل أشكال التفسير الإسلامي، الذي اعتقد أنها أدخلت الدين في ممارسات أبعدته عن العقل. ويطالب قراء ابن تيمية المعاصرين، بأن ينظروا إليه من زاوية أخرى، غير التي تنطق بها عباراته المتشددة، لأنها ليست تعبيراً دقيقاً عن فكر الشيخ. ويدعم ذلك ما كتبه ابن تيمية في رسائله التي دافع فيها - على المستوى الفلسفي - عن مبدأ الفردية والاختلاف، وهو مبدأ يؤسس فلسفياً للتنوع والتعدد. كما دافع عن المفاهيم الكبرى، التي تؤكد مبدأ التسامح من زاوية فلسفية، وأخذ من ابن عربي مفاهيم الإرادة الكونية وأصالة الخير، ومفهوم الرحمة الإلهية، وتبنى فكرة الأمر الكوني والأمر الديني، وقبل تعريف ابن عربي للخير والشر.