عرف الإنسان على امتداد 160- 200 ألف سنة من استعماله الكلام حوالى 500 ألف لغة اندثر معظمها فلم يبق اليوم سوى 6.909 لغات كثير منها مهدد بالزوال. الأرقام السابقة من دراسة للبروفسور مارك باغل، أستاذ تطور علم الاحياء في جامعة باركشير الإنكليزية. وهو يقول إن أغرب تجمع للغات في العالم موجود في بابوا - غينيا الجديدة قرب أستراليا حيث يتكلم سبعة ملايين من السكان 830 لغة أو ثُمن اللغات الباقية في العالم. (وفي الأخبار أن الملكة إليزابيث قد تضطر إلى التدخل لإنهاء خلاف بين رئيسي وزراء تلك البلاد). البروفسور باغل يقول إن الإنكليزية هي أفضل اللغات حظاً، فهي الرابعة في الاستعمال حول العالم بعد الصينية الماندارين والهندية والإسبانية، إلا أنها الأولى كلغة ثانية حول العالم «وهكذا فالإنكليزية ستكسب». إذا كان المقصود بالكسب أن تصبح أول لغة في العالم فهذا ممكن، إلا أنها لن تحل محل اللغات الأخرى بعد قرن أو ألفية. شخصياً اعتقد أن العربية، وهي في المركز الخامس اليوم هي اكثر لغة مضمونة البقاء في العالم، فهي لغة القرآن الكريم، والإسلام هو الدين الوحيد في العالم الذي يزيد اتباعه بدل أن ينقصوا ككل دين آخر. البحث الجامعي الحديث عن اللغات أعادني إلى طه حسين وكتابه «في الشعر الجاهلي» الذي أثار ضجة هائلة لدى صدوره (عندي نسخة تحمل تاريخ 1926)، وهو ما توقع المؤلف، ففي المقدمة وكل فصل تقريباً نراه يقول إن أنصار القديم سيثورون عليه، ويتوقع سخطاً وازوراراً، إلا انه يتوقع أيضاً أن يرضى عن كتابه قلة من المستنيرين. طه حسين يقول إن اكثر الشعر الجاهلي ليس جاهلياً، فالرواة يجمعون على أن العرب كانوا قسمين، قحطانية أو عرب عاربة في اليمن، وعدنانية أو عرب مستعربة في الحجاز، فكيف قال امرؤ القيس اليمني شعراً بلغة عدنان. وهو ينسب إلى عمرو بن العلاء قوله إن اللغتين كانتا متمايزتين، وهناك أدلة من المحدثين تؤكد ذلك ولا تترك شكاً ولا جدلاً. المؤلف قال إن قريش كانت وحدة سياسية مستقلة قبل الإسلام، غير أن لغة قريش قبل الإسلام لم تكن شيئاً يذكر، ولم تتجاوز الحجاز، فلما جاء الإسلام عمّت سيادة قريش، وسار سلطان اللغة واللهجة إلى جانب السلطان الديني والسياسي. طه حسين يذكر أن القرآن كان أصدق مرآة للحياة الجاهلية، وهو يخلص إلى القول «إننا نعتقد إنه إذا كان هناك نص عربي لا تقبل لغته شكاً ولا ريباً، وهو لذلك أوثق مصدر للغة العربية، فهو القرآن. وبنصوص القرآن وألفاظه يجب أن نستشهد على صحة ما يسمونه الشعر الجاهلي، بدل أن نستشهد بهذا الشعر على نصوص القرآن». «في الشعر الجاهلي» أطلق جدلاً هائلاً في حينه لم يحسم حتى اليوم، وثار التقليديون على طه حسين رغم سمعته الأكاديمية الكبيرة، وأعتقد أنه اضطر إلى تعديل بعض كلامه في طبعات لاحقة، إلا أنني لا أعرف إذا كانت النسخة التي بيدي هي الأصلية أو المعدّلة. (كان أستاذي للماجستير الذي لم أكمله بسبب الحرب الأهلية في لبنان إحسان عباس، أبرز أستاذ للغة العربية في زمنه، ومع ذلك حسدت الدكتورة عائشة عبد الرحمن، بنت الشاطئ، أن يكون طه حسين رئيس لجنة مراجعة أطروحتها للدكتوراه عن «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري في الجامعة المصرية). هذه الأيام لا تمضي سنة من دون أن أشارك في مؤتمر أو اكثر لحماية اللغة العربية، وسأكون في مؤتمر قادم في بيروت ينظمه المجلس الدولي للغة العربية بالتعاون مع اليونسكو (23/3/2012- 19). أشارك بحماسة، ولكن لست مدفوعاً بأي خوف على اللغة العربية من طغيان الإنكليزية أو غيرها، فهي باقية ما بقي القرآن الكريم وإسلام ومسلمون، وإنما أسعى في المؤتمرات إلى التركيز على الجهود لصيانة العربية فنقرأ أو نكتب لغة صحيحة بدل لغة هجين نراها في الميديا الجديدة. وأقول مع الشاعر: لهفي على الفصحى رماها معشر/ من أهلها شُلّت يمين الرامي. [email protected]