في مصر وأنت تتجول في شوارع القاهرة لن تستغرب أو تفاجأ بأن يصافحك أحدهم مقدماً لك نفسه من أنه وزير سابق، قد يجلس على طرف الطاولة المقابلة في مقهى شعبي ويجر أنفاس «القوزة» بشيء من الدعة والاسترخاء، وسيفرح جداً لو ناديته بالوزير السابق، وكأنك تعيد له أوسمته المنتزعة، وتزرع في وجهه أكبر ابتسامة تدفعه لأن يطلب لك ما تشاء، هذا الذي يقبع أمامك كانت تهتز له العظام، وتصطفق من أجله الأفئدة، اليوم هو أليف وممتع بحركاته البهلوانية، والشعب المصري الفطن يعرف جيداً كيف يتعامل مع عزيز قوم، أعني سيادة وزير سابق سقط سهواً من خانة الوزراء، ليُمحى سريعاً من الذاكرة بجرة قلم إلا من الألسن الشامتة المشوبة بالشنآن، أما المآثر التي خلفوها وراءهم فهي أشبه ما تكون بالعقد المستعصية على الحل. لنبدأ بقراءة تأملية تبدأ من الحاجة لبقاء وزير ما على كرسي الوزارة أكثر من أربع سنوات، ما الأجندة المعلنة التي يتحرى الانتهاء منها بنتائج مذهلة؟ ثم إن السنوات الثماني أو العشر هي عمر ممل وقاتل لأي إبداع يمكن أن يقدم في غضون سنوات قلائل، فعجلة الزمن تدور بوتيرة متسارعة، وأدواتها مختلفة، تنهض على معارف وعلوم مستحدثة، لا يستوعبها الوزير «المركوم» على الكرسي، حتى لو كان ثمة متخصصون في مجالات عدة يحفونه ذات اليمين وذات الشمال، فقواه الذهنية لن تسعفه لممارسة كل صلاحيته على الوجه الأكمل، إلا إذا كان ممثلاً، أو بالأحرى مشاركاً في سلطة ما لا يسعه المقام إلا البقاء بهيبته النافذة التي لا تقبل التراخي، ولا أعتقد أن هذه الصفة تنطبق إلا على القليل الموسومين بأسمائهم الملحقة بتوصيفات اعتبارية تحظى بمباركة شعبية، ما عداهم تبقى المسألة محيرة وعصية على الفهم، حتى يصل الأمر ببعض الوزراء حد الاسترخاء والدعة الباعثة لحال من التضخم والتعالي المغري بتوجيه كلام مقذع للمواطنين كما حدث. النقطة الثانية الجديرة بالتأمل هي اليوم الأول لدخول الوزير المعين أخيراً من بوابة الوزارة، وعيناه تصافحان وجوهاً جديداً، وتتلمس مناخاً مختلفاً، خالي الوفاض إلا من بعض القضايا الكبيرة المعلومة للجميع، ثم يفاجأ أن ما بين دهاليز الوزارة ملفات كثيرة طمرتها «الأغبرة» من مهملات الوزير السالف، قد لا يجد الوقت الكافي في خضم الاندفاع المحموم للتهنئة والمجاملات البروتوكولية للنظر فيها، إن لم يكن لديه قرار صارم في تجاوزها إلى ما هو أهم. النقطة الثالثة تتعلق بالعاملين تحت مظلته، وهم الممثلون لجزء من تركة ثقيلة تفرضها طبيعة الأنظمة البيروقراطية، وإن استطاع تغيير أو استبدال عدد منهم فقد لا يسعفه الوقت والجهد لاستبعاد العناصر السيئة داخل منظومة طويلة ومترابطة، أو حتى مجرد الوصول إليها، وهذا يستدعي تشغيل فريق بمعيته يختارهم بعناية. النقطة الرابعة تتعلق بأنظمة ولوائح الوزارة العتيقة المرتبطة تباعاً بأنظمة ولوائح عليا وأخرى وسطى، أعني أنظمة وزارة المالية، ووزارة الخدمة المدنية، حتى أصبحت كالنصوص قطعية الثبوت، قطعية الدلالة، فأصبحنا في خدمتها عوضاً عن أن تكون في خدمتنا. أما النقطة الخامسة، وهي الأهم، تلك المتمثلة في المشكلات التي تعاني منها الوزارة، والتي قدمت لها توصيات ودراسات سابقة قد تتعارض مع تصورات أو رؤى الوزير الخلف ولكيفية معالجتها، فسيكون أمامه أربعة خيارات: إما البدء من حيث انتهى الوزير السابق بالعودة إلى نقطة الصفر ومحاولة المعالجة المرحلية لها، أو البدء في الحلول الإنقاذية السريعة، وهذه تفتقر إلى شجاعة إدارية. ولعل بعض الوزراء يدخلون الوزارة خاليي الوفاض، ليس في جعبتهم أجندة محددة، كما أنهم غير مطلعين بشكل كافٍ على خبايا الأمور في الوزارة التي فوجئوا بها ذات صباح، هذا طبعاً متى افترضنا أن الوزير معبأ داخلياً بضرورة التغيير، ومتى افترضنا أيضاً أنه انبرى للعمل بعيداً من بروتوكولات الوزارة التقليدية. والسؤال يأتي هنا مفاده: هل أربع سنوات وزارة كافية للإصلاح؟ قد نقول: نعم، متى كان للوزير مشروع محدد ومعلن، مبني وفق أسس منهجية ومدروسة يتجاوز اللوائح والأنظمة المثبطة للهم، عندها سيقاس مستوى الإنجاز بقدر المراحل التي أنجزها وتخطاها إلى غيرها، وقد لا يكون من الضرورة بمكان استمراره لسنوات أطول، يكفيه أن يحسب هذا الإنجاز له ليسلم الراية إلى غيره لمواصلة السير وتبني مشروع آخر، لتؤرخ مراحل كل وزارة بأسماء الوزراء الذين مروا بها. وهنا يجدر بنا السؤال: أي وزير على مر التاريخ السعودي ترك بصمة واضحة تحسب له، عدا أسماء تُعد على أصابع اليد الواحدة؟! طبعاً مع اختلافنا حول أهمية هذه البصمة سلباً أو إيجاباً، هذا مع علمنا بأن بعض الوزراء في فترة ما وُزروا أكثر من وزارة، إما في فترة واحدة، أو على فترات متعاقبة، واليوم ليس الزمن كذاك، فإزاء تمدد المجتمع السعودي وتضخم متطلباته وعجزه عن مواربة حاجاته بكل الحيل والبدائل، ومع تنامي الوعي لدى جيل اليوم، من خلال تحصيلهم المعرفي النوعي وتماسهم المباشر بتجارب الآخرين، أصبحت المسألة أبعد من القيم المكرسة للقناعة بالموجود على خلفية المقولة الشهيرة «الجود من الموجود». ثمة تطلع لما هو أبعد، فالناس أمام أرقام فلكية يحسبونها سريعاً لموارد بلادهم سنوياً، ويقف عليها المستوزرون الحائرون أمام مطالبهم، تلك المطالب الصريحة والواضحة، التي تبدو أمام الوزراء معقدة وعصية على الحل، ستتلاشى وترقّ في أقل من أربع سنوات مع العزائم الصلبة، والنيات الصادقة، فمتى تخفف الوزراء من أطماعهم وأنانياتهم ستكون المدة كافية لوزير صالح مصلح. * كاتب وروائي سعودي. [email protected] twitter | @ almoziani