لا تحتاج أميمة الخليل الى مديح أو إطراء فهي التي اختارت لنفسها نهجاً وضعها في خانة التقدير والاحترام منذ أن قدمها مرسيل خليفة الى جمهوره الواسع وجعلها «علامة فارقة» في «ميادينه» التي اتسعت لتضم إليها كل عاشق الحب والحرية والخير والجمال وكل مدرك أن الالتزام في الفن ليس خطابية وشعارات وإنما سعي حثيث ودائم نحو الرقي والتجديد وانحياز أكيد الى الإنسان في صراعه مع الظلم والطغيان ومع كل ما يقلل من قيمة الإنسانية. وفي هذا الموقع بالذات وجدت أميمة نفسها واستقرت الى جانب مرسيل من دون التخلي عن حقها المشروع في أن تبحث لنفسها عن حيّز خاص وفسحة منفردة تؤكد فيهما ذاتها كمغنية تجيد ألواناً مختلفة من الطرب الراقي الذي لا يتناقض مع صورتها كفنانة ملتزمة. كذلك لا يحتاج الفنان هاني سبليني شريك أميمة في الفن والحياة الى شهادة، فهو واحد من المتميزين في مجاله تلحيناً وتوزيعاً وعزفاً، ومن يشاهد هاني عازفاً على البيانو برفقة أميمة يلاحظ، بل يعيش مناخ الحب والشغف الذي يشيعه في فضاء المسرح حيث يبدو أكثر المستمتعين بما يجري ويدور، باعثاً في الأجواء رعشات فرح وسعادة، وكأني به لا يرى في الموسيقى إلا محرضاً على الفرح والخير والجمال، فضلاً عن الغضب والتمرد والمشاكسة. في حفلتهما الأخيرة على منصة قصر الأونيسكو في بيروت التي حملت عنوان «أعرف بلاداً» بدعوة من نادي أصدقاء إذاعة «صوت الشعب» وبمصاحبة موسيقيين متميزين مثل عبود السعدي، علي الخطيب، خالد ياسين، توم هورنغ، حسين الخليل وسمير سبليني، قدمت أميمة (وهاني) سهرة حب دافئة أنشدت فيها مطربة «الميادين» باقة من قصائد يمتزج فيها الخاص بالعام والفردي بالجماعي والعاطفي بالوطني، وتندرج جميعها تحت راية الانحياز للإنسان والإعلاء من شأنه، ولعل في هذا الانحياز مكمن السر الذي يربط أميمة بسامعيها الذين يأتون إليها أينما كانت ويصفقون لها بقلوبهم لا بأكفّهم فحسب، ويبث رعشات مكهربة تسري من الخشبة الى الصالة، المأخوذة المنتشية بما تصدح به صاحبة الحنجرة الشفافة الشفيفة، الجارحة المجروحة، العاشقة المبلولة بمطر بيروت الحنون. ولذا لا تكتمل مقاربة حفلات أميمة من دون الإشارة الى جمهورها المتعدّد المتنوع، الشغوف، التوّاق الى ما يخرجه من شرنقة الصراع السياسي والانقسامات الطائفية والمذهبية الى فضاء حر مثل صوتها وخياراتها، وهذا ما تجلى بهياً في تلك الليلة العامرة في الأونيسكو، على مائدة شهية من الشعر والموسيقى والغناء انفجر فيها السميعة على تنوعهم واختلاف مشاربهم فرحاً وحباً ورقصاً وحنيناً الى زمن بلا أحقاد وضغائن داخلية وبلا شروخ مجتمعية تقسم الناس والأمكنة بناء على طقس تواصلهم مع خالقهم. «أعرف بلاداً» عنوان تلك الليلة، والبلاد التي تعرفها أميمة ليست بالتأكيد بلاد الانقسامات الطائفية والمذهبية أو السياسية والحزبية أو الفئوية والمناطقية أو العشائرية والقبلية، إنها البلاد التي يصنعها الطيبون من أبنائها المنحازون الى القيم العاداة والنبيلة والى الحق والمساواة بين الطبقات والأعراق والأجناس، إنها بلاد الابتهاج من الداخل، من جوف القلب وأعماق الروح وليست بلاد الابتهاج بالرصاص المجاني الذي يحصد فيه الفرحون بزعمائهم أرواح الأبرياء، ولا بلاد رعاع الشوارع الذين كلما «دقَ الكوز بالجرّة» أرهبوا الآمنين في بيوتهم وروّعوا الناس. إنها بلاد الذين ينهضون مع كل شمس جديدة سعياً وراء لقمة عيشٍ كريم حلال ينبعث من قلوبهم الأمل والرجاء بيومٍ تتسع فيه هذه الجغرافيا الممتدة من الماء الى الماء لأحلام أبنائها وحقّهم البديهي في الحياة. أميمة صوت يستحق أن تصفق له القلوب.