«في منتصف طريق الحياة» (دانتي) فاجأنا سلمان زين الدين بمجموعة شعرية ثانية «أقواس قزح». بعد مسيرة طويلة، موفّقة، في النقد الأدبي - نقد رزين وتحليل متبصّر - وبعد شوط يعادلها في مجال القصّة، أصدر اليوم شعراً. مجموعة جميلة مضموناً وإخراجاً (دار نلسن). أولى فضائل هذه المجموعة التزام الأصول العَروضيَّة، وإنْ على تحرُّر بارز، إنما يحافظ دائماً على الجوهري: الموسيقى. وجمالها أيضاً في تلك البساطة الريفيّة التي تصدر عنها، وفي الحنين الشاجي إلى العابر، إلى الفتوّة الغابرة، الفردوس المفقود. الواقع، لا فردوس إلاّ مفقوداً. جميع ذلك يُساق إليك بمهارة بيانية وعاطفة شعرية. منذ سعيد عقل وأنسي الحاج رحت أظنُّ الشعر بالعربيَّة لن يخرج من الإرث العربي العريق، والطاغي، إلى مخاطبة عصرانيَّتنا العاطفيَّة. بتعبير آخر: شعوري كان أنَّ الخروج من الموروث الشعري إلى الجديد - بنيةً وروحاً وصناعةً، قد غدا، أو كاد يغدو مستحيلاً. من حيث الروح، أُكرِّر، والبناء والتصوّر والصياغة. جميع شعرنا ظلَّ يدور في فلك العبقريَّة الموروثة، التي وُلِدَ فيها، واستقى منها، وتشبَّع بها، بحيث قَوْلَبَت بنيتنا الإبداعية بالإبداعية الموروثة. ذاك أن الخروج من، وعلى فَلَكٍ ثقافيٍّ أَصْلٍ لا يمكن إلاّ بالإتيان من فَلَكٍ مغاير، تأصَّل في الأصيل. تجديد في ثقافة بتطعيمها بالمختلف بعد استساغته، وتمثُّله. هنا، مجموعة سلمان زين الدين، «أقواس قزح»، تشعرنا باختلافها. ليس اختلافاً حاصلاً بما ذكرت، فهو لم يأتِ من ثقافة مغايرة، وإنما من أصالة كانت كامنة فيه فعرف كيف يوقظها: هي أصالة الأرض. على تراثيَّتها حملت نفحة ذات شميم آخر. لقد كُتبت بألفاظ الأرض. نُظمت بتعابير التراب الريفي اللبناني، الذي نفح الصُّور برائحته الخاصة، والألفاظ بماويَّته المتميِّزة، والممتازة. وهذا ما يشعر القارئ برعشة تقولها ندَّت عن سواها. خذ أيَّةً من القصائد، أيَّةً كانت، وأنت عاثرٌ فيها على لقيّة مستطرفة، أو على لُقى تطلُّ عليك من تحت حجر، أو تلمح من حاكورة ضائعة في أضغاث الطفولة فتحرِّك فيك حنيناً وشجواً. في رأيي، اليوم، الشعر مهما تفذلك ورصَّ رصّاً بلاغيّاً، إن لم يحرِّك فيك عاطفةً عذبة، رقيقة، مُستَلَذَّة يبقى خارج الشعر - الشعر الذي عليه - وهذه أولى وظائفه، أن يُشعرنك، يُشعِّرك، يُعيدك شاعراً.