ثمة قاعدة جيو-سياسية قديمة تقول: «من يسيطر على روسيا يسيطر على أوراسيا» (أوروبا وآسيا). هذه القاعدة لا تزال في محلها، ولم يستهلكها الزمن، فروسيا هي أبرز خصوم الولاياتالمتحدة، وخير دليل على ذلك مشروع نشر الدرع الصاروخية، الذي يؤدي دوراً واضحاً جداً، يتمثّل في توجيه ضربة سريعة وقاضية الى الإمدادات الصاروخية الإستراتيجية-البرية في روسيا، والغواصات الحاملة للصواريخ البالستية، والقضاء على نقاط الإطلاق وتفعيل المنظومات الفضائية–الجوية الروسية، لإحباط أي عملية إطلاق للصواريخ بواسطة الليزر. في البر الأميركي، تستطيع منظومة الدرع الصاروخية هذه تدمير أي صاروخ يتخطى الدفاعات الآنفة الذكر من دون أي صعوبة أو عسر. ويحمل مشروع الدرع الاميركية طابعاً وطنياً، أطلقه الرئيس بيل كلينتون، ورفع شعلته كل من جورج بوش الابن وباراك أوباما. ولا تجد روسيا نفسها قادرة على وقف العمل به، أما تلويحها بالانسحاب من اتفاق «ستارت 3»، فليس بخطوة ثورية. الاتفاق هذا يربط بين المسائل الدفاعية والهجومية الإستراتيجية، ويترك مجالاً للدول بالانسحاب إذا لاحظت شوائب أو خللاً، وهذا ما لم يُخْفِه الرئيس مدفيديف. ولا يندرج انشاء محطة الرادار ونشر منظومة «إسكندر» الصاروخية في كاليننغراد، في خانة الرد على الدرع وقدراتها الدفاعية التي تقيِّد قدراتنا الهجومية، لذا لم يعلِّق الاميركيون على تصريح مدفيديف، ولم يولوه الأهمية، فهم يدركون أن روسيا مهما بلغت قيمة موازنتها الدفاعية، عاجزة عن مضاهاة القدرات الأميركية في الوقت الحالي، ولا يغفل عن بالهم أن القدرات الروسية العسكرية تدهورت تدهوراً مستمراً منذ عقدين. وعليه، وبينما تواصل الولاياتالمتحدة نشر منظومتها الصاروخية، سيحالف روسيا الحظ إذا استطاعت تفعيل «ما تبقّى» من قدراتها الدفاعية. وعلى رغم التصريحات المتكررة عن عزم روسيا نشر منظومة «إسكندر»، فإن هذه المنظومة لن تُنشر، إذ ليس في مقدور روسيا أن تُنتج أعداداً كافية من هذه الصواريخ، ثم إن مدى صاروخ «إسكندر»، رغم فعاليته، لا يتجاوز 500 كيلومتر، ولا يسعه تالياً تدمير الدرع. ويجافي المنطق نشرُ محطة الرادار في كاليننغراد في وقت يَسَعُ محطة «فولغا» الروسية المتمركزة والعاملة في بيلاروسيا (روسياالبيضاء) تغطية اوروبا كلها وشمال الأطلسي. تملك روسيا فرصة يتيمة لحمل واشنطن على التخلي عن نظام الدرع، وحريٌّ بها عِوَضَ التركيز على نظامها الدفاعي، السعيُ الى تصنيع سلاح فعّال قادر على بلوغ أوروبا والبر الاميركي، وإنتاج عدد كاف منه. إن بلوغ هذا الهدف ممكن من طريق التعاون مع الصين، ومن المستبعد أن نحقق وحدنا مثل هذا الهدف. إن قوام السياسة الأميركية هو استغلال نقاط ضعف الخصم، وهي لا تفسح المجال أمام التسويات، وبلغت استثمارات واشنطن في تطوير منظومة الدرع الصاروخية بلايين الدولارات، وبناء عليه، يقوِّض تراجعها اليوم، ولو طفيفاً، الصناعةَ العسكرية الأميركية، ويُلحق الضررَ بها وبصورة الرئيس الأميركي، الذي ربما يفقد حظوظه في الفوز بولاية رئاسية ثانية. الولاياتالمتحدة لن تتخلّى عن منظومة الدرع الصاروخي إلا يوم نثبت لها أن لا فائدة منها ترتجى. * جنرال متقاعد رئيس أكاديمية النزاعات الجيو - سياسية، عن «تريبونا» الروسية 1/12/2011، إعداد علي شرف الدين.