تؤكد نتائج الانتخابات في بلدان ما بعد الثورة التوقع السائد منذ فترة طويلة وهو ان المرحلة القادمة في المنطقة العربية ستتميز بوجود الاسلاميين في السلطة في شكل او في آخر وفي اكثر من بلد عربي. فوز الاسلاميين في الانتخابات المصرية يأتي بعد فوز حزب العدالة والتنمية الاسلامي في المغرب والذي جاء بدوره بعد فوز حركة النهضة في تونس. في ليبيا هناك توقعات غير بعيدة عن الواقع بفوز مشابه او قريب للاسلاميين في حال تنظيم اية انتخابات. في الاردن واليمن والجزائر لا احد يقلل من حجم التيارات الاسلامية وإمكانية حصولها على نسب عالية في اية انتخابات. وعلى رغم ان تجربة الاسلاميين العرب في الحكم ليست مشرقة، على الاقل في الحالتين اللتين شهدناهما في السنوات الماضية في السودان وغزة، إلا ان ذلك لم يقلل من التأييد الشعبي لهذه التيارات. وربما يُفسر ذلك جزئياً بإحالة فشل هاتين التجربتين الى العوامل الخارجية والعلاقات مع العالم والمحيط اكثر مما احيل الى قدرة الاسلاميين وكفاءتهم في الحكم. وهكذا تبدو الشعوب العربية مصرة على خوض مغامرة تسليم امور الحكم الى الإسلاميين لحقبة من الزمن. وتحتاج هذه الشعوب إلى تجربة حقيقية وعريضة مع الاسلاميين حتى تستطيع الحكم عليهم بموضوعية بعيداً عن العاطفة الدينية والتأييد شبه الاعمى. يقول كثير من الاسلاميين ان دورهم قد جاء ومن حقهم ان يحكموا بعد ان حكم القوميون والليبراليون والاشتراكيون والمحافظون التقليديون في البلدان العربية. هنا ليس ثمة اية مشروعية للشك في ذلك الحق ما دام يأتي من طريق الديموقراطية والانتخابات. اي ديموقراطي حقيقي لا يستطيع إلا ان يسلم بهذا الحق الديموقراطي، حتى لو كان معارضاً للإسلاميين على طول الخط. لكن ما يظل خاضعاً للجدل والنقاش والتخوف العميق والمُبرر هو منسوب ترسخ اعتقاد الاسلاميين بالديموقراطية وبمضامينها الواسعة والكلية، وخضوعهم لمنطق تداول السلطة سلمياً وعدم التمسك بها فور الظفر بها. هذا التخوف يظل مُشرعاً بانتظار ما تنجلي عنه السنوات القادمة وممارسة الاسلاميين في السلطة. لكن ما يُمكن التأمل به الآن هو تقليب بعض جوانب هذه الفورة الاسلاموية الانتخابية وسيطرتها على الشارع ودفعها للتيارات الناطقة بإسمها إلى سدة الحكم، ونتائجها البعيدة الامد. اية انتخابات تحصل في اي بلد عربي او اسلامي تأتي بعد عقود طويلة من فشل دولة الاستقلال الحديثة، وهي الدولة التي نُظر إليها بكونها إماً حامية للتجزئة، او موروثة عن الاستعمار، او محكومة من قوى علمانية وغير اسلامية، أو كل ذلك مجمتعاً. وقد نُسب ذلك الفشل واختزلت آلياته المُعقدة وظروفه المُتداخلة إلى سبب تسطيحي تم تسويقه بمهارة فائقة من الاسلاميين وهو «عدم الحكم بالشريعة». كل الحلول والحكومات والسلطات فاشلة، وفق الاسلاميين، بسبب استبعاد الاسلام من الحكم. ولهذا، فإن الشعار المُبسط والنافذ الذي اعتمده الاسلاميون كان «الاسلام هو الحل». لا يقدم هذا الشعار الغامض والفضفاض اية استراتيجية او برامج سياسية او اقتصادية او علاقات دولية، لكنه بالغ التأثير بكونه يخاطب وجدان الشعوب التي يشكل الاسلام والتدين العام بنية عميقة في وعيها التاريخي. وقد تضاعف تأثير ذلك الشعار بكونه ظل يُطرح من جانب تيارات وحركات تعرضت للقمع والاضطهاد على مدار فترات طويلة وتمثلت صورة الضحية في المخيلة الجمعية العامة. اضيف الى ذلك كله اشتغال الاسلاميين على مسألة تخويف شعوبهم من «التغريب» ومن أشكال الحداثة الجديدة والصادمة واعتبارها تهديداً مباشراً للهوية الاسلامية والدين. وقد تفاعل ذلك التخويف خلال العقود الماضية مُبقياً مسألة الهوية في صدارة اهتمام «الشارع». وتمكنت التيارات الاسلامية من الاحتماء بها وتصدر موقع الدفاع عنها. وبالتوازي مع ذاك تراجعت مسائل العدالة الاجتماعية، والتنمية الاقتصادية، والحرية السياسية، والديموقراطية، ولم تحتل نفس الموقع الذي احتلته مسألة الهوية. وهذه الاخيرة هي اقرب الى التعبئة الايديولوجية والتحريض منها إلى اية مقاربة اخرى للحكم والسلطة، وهي تعبئة كان حاملها الفعال شعار «الاسلام هو الحل» الذي يزيح جوهر المسائل والمعضلات بكسل فادح عن الاجندة العامة. وقد خدم ذلك الشعار الاسلاميين بقوة هائلة في عقود وجودهم في المعارضة، وكان الفشل الذريع للنخب الحاكمة في البلدان العربية في بناء دول ومجتمعات فعالة لا يعمل سوى على تعزيز ذلك الشعار، مضيفاً هالة سحرية انتظارية غيبية تنتظر قدوم المُخلّص حامل الشعار. بالترافق مع ذلك كله عملت مسألة الهوية والدين على تدعيم ادعاء صريح او ضمني عند الحركات الاسلامية بأنها تنطق بإسم الدين وتمثله. وهو ما دفع عموم الناس إلى الاحتماء بالاسلاميين بكونهم حماة الدين. في الحقبة القادمة ستتعرض هاتان المسألتان، او الآليتان: شعار «الاسلام هو الحل»، والنطق بإسم الدين، وما تمثلانه من حمولة ايديولوجية، إلى اختبار علني وشامل في مختبر الوعي الشعبي. ربما يأخذ هذا الاختبار ردحاً من الزمن، وقد يلتهم عمر جيل بأكمله، لكن يبدو انه لم يعد ثمة مناص منه وعبور هذه المرحلة التاريخية من عمر الشعوب العربية كي يتحول وعيها تدريجاً من الهوس المُبالغ فيه بالهوية الى وعي الواقع سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. او بلغة اخرى ان يتحول وعي الشعوب والرأي العام من طوباوية تعليق الآمال على شعارات ايديولوجية حالمة الى مواجهة الواقع ومحاكمة الاحزاب والحركات بناء على ما تقدمه من برامج فعلية وحقيقية على الارض. ليس هناك اي حل سحري او طريق مختصر يقود إلى انجاز عملية معقدة ومركبة مثل تحديث وتعميق الوعي الشعبي وتظهير معظمه من سيطرة الشعارات الجامحة. الحل الوحيد هو التجربة العملية والانخراط في الواقع وتنزيل الشعارات الايديولوجية من عليائها إلى ارض التطبيق. عندها تتضاءل مفاعيل التعبئة الايديولوجية التي تتبناها الاحزاب والحركات، ويخفت بالتالي تأييد هذه الحركة او تلك استناداً الى الهوية الدينية او الشعار الايديولوجي الذي تحمله. يصبح التأييد وعدمه محكومين بالانجاز السياسي والاقتصادي وسواه. وعندها فقط تسير المجتمعات نحو تسييس صحي ومتوازن وحقيقي، ومن دون شك ان ذلك سيتطلب مرحلة طويلة وربما مريرة ايضاً. في حقبة الاختبار القادم للتيارات الاسلامية وهي في سدة الحكم سيتم، بالجملة او بالتدريج، نزع الصفة التمثيلية للإسلام التي أُلصقت بالتيارات للإسلامية، سواء بسبب إدعاء هذه الاخيرة تلك الصفة، او كتحصيل حاصل لمجموعة من الظروف والعوامل. وعندما يتوازى تحييد تمثيل الحركات الاسلامية للدين مع التطور الجماعي والشعبي في طرائق تقويمها، أي بناءً على السياسة والانجاز وليس الهوية والنسبة الى الدين، فإن الامر المفصلي الذي سيتطور هو تعزيز الفصل بين هذه الحركات واحتكارها لتمثيل الدين، اي اعتبارها احزاباً سياسية من حقها المنافسة السياسية، فيما الدين شيء آخر. ونتيجة لذلك سيتحرر الوعي الشعبي تدريجاً ايضاً من وطأة التأثيم العارم الذي يندلع عشية كل انتخابات ويطارد كل ناخب متدين إن لم يمنح صوته للحركة الاسلامية المُشاركة فيها. وبالتوازي مع ذلك وامام التحديات الهائلة التي تواجه المجتمعات العربية كالفقر والعدالة الاجتماعية والتنمية وفرص العمل لأجيال وشرائح الشباب العريضة والمحبطة، فإن المشكلات الحقيقية هي التي ستزحف لتحتل صدارة الاولويات الشعبية على حساب مسألة الهوية المُفتعلة. مسألة الهوية والخوف عليها ستنكشف وتظهر بكونها مضخمة وتخويفية، وستعود لتأخذ حجمها الطبيعي العفوي التوافقي. ليس هناك خوف على هوية العالم العربي والاسلامي وهي ستدوم كما هي وكما كانت عليه لقرون طويلة. وهذه سمة الهويات والحضارات العريضة والراسخة في العالم، والتي تُستبطن في الثقافة في شكل تلقائي. ستبقى هوية العالم العربي عربية اسلامية كما بقيت هوية وديانة الصين بوذية - شنتوية، وبقيت هوية وديانة اوروبا مسيحية بروتستانتية وكاثوليكية، وبقيت روسيا ارثوذكسية، والهند هندوسية سيخية. هذا بالتوازي وربما على الرغم مع العلمانية السائدة في هذه الحضارات، وإلحاد بعضها. لكن لم تتطور تلك الحضارات وبلدانها إلا عندما توقفت الهوية عن فجاجتها وأفسحت الطريق للسياسة والتاريخ والتعايش لقيادة المجتمعات. * محاضر في جامعة كامبردج - بريطانيا [email protected]