اليوم يذهب الابن البِكْر لأسرة متواضعة ليأخذ ورقته الحاسمة لعام دراسي كامل، فقد اعتاد أن يذهب لها بمفرده بحسب ما كتبته الظروف في يوم مأسوي حارق ذهب بالأب الحنون بغمضة عين، قَبَلَتْه الأم في الصباح الباكر بلا توقف وقبل أن تشرق الشمس لكي لا تذيب البقايا حرارتها الآسرة، كانت مع تكرار القبل تشم رائحة فقيدها الوحيد وترى في الشارب الصغير الذي بدأ يشق طريقه تحت أنف ابنها صورة مصغرة من تشكيل الوجه الأنيق الذي عاشت معه، تمتمت في أذن المغادر بهدوء حبيبي «احتفظ بالشهادة لا تُريها أحداً، لا تجعل عينين قبلي تمر عليها وتلمحها يا عيوني»، نجحت في أن تصل لقلب صغيرها بالكلمات كما وصلت له بالحب والحنين، رغبت أن يوصلها سريعاً إلى المساحات القصية من قلبها الذي لم ينسَ، وجروح خَلَفَها غياب حقيقي نطق «وداعاً» ومضى. تريد أن تفرح بصغيرها على طريقتها الخاصة، وتضاعف بكمية الفرح المختصرة جرعات التفاؤل التي بداخلها، فكلما قفز سنة جديدة، رسمت صدر المجلس ووضعته في الصدر، ناولته كوب قهوة صنعته وحادثته تسترجع بالتفاصيل والوجه الصغير كل التفاصيل القديمة والوجه العزيز، اختارت له رائحة والده التي لن تفارق الذاكرة لتعيدها بالصوت والصورة في عمر أقل، بكل اللحظات الدافئة، كانت تخفي رغباتها المسكونة في أعماقها بشفقة، وتعلنها في لحظات الحسم بجرأة، هكذا كانت في كل تفاصيل حياتها وشؤونها تخفي لب قلبها عن الكل، لكنها لا ترى من حولها شيئاً في لحظات الحسم والجزم حين يمس الحديث قلبها الموجع الحزين، يشق الابن طريقه للمدرسة بحماس وهي تبعد مسافة تقترب من المنتصف بين خطى قلبها للذكريات، وخواطرها الممتدة بطول الفراق، يلتقط شهادته بسرعة ليخفيها بين ملابسه وينطلق في طريق العودة، فَرْحَته بإسعاد قلب الأم أكبر من سعادته بأرقام النجاح، وَصَل، فاحتضنته بحماس الحرص على صغيرها الذي يكبر، لتضع وتطبع قبلة على الخد الصغير وأخرى بدمعة في زاوية الشهادة بالركن القصي الأيسر المدون فيه توقيع ولي الأمر، يمسح ابنها الدمعة التي هربت لباطن يده ليشاهد صغيراً إلى أين تهرب دمعة أم في غياب زوج؟ ولتنقله إلى الملامسة المباشرة والحقيقة التي تعلم قلبه الكبير أن دمعة الأم ساخنة صادقة! ما أقل لحظات الفرح لهذه العائلة الصامدة لكنها لا تمر إلا بسيل من الدموع وخليط من الابتسامات حتى تختفي الأسئلة التي تبحث عن مبررات البكاء فتقتلها ابتسامات متقطعة تلغي كل علامة استفهام وتلغي باحترافية صناعة المشهد، تلقي الأم بشهادة ابنها في خزانتها الصغيرة التي تحتفظ فيها ببقايا قارورة عطر صغيرة كانت للأب قبل وداعه، وصور كلها تبتسم كأنها تخبرها بصمت وفن أن الحياة تحتاج منا لابتسامة متواصلة قبل أن توزع علينا الدموع والحزن بالمجان، قبل أن نقاومها بما تيسر من لحظات الفرح والابتسامات، تضع شهادة اليوم مع شهادات الأمس القريب لتحسب كم عاماً مَرْ دون أن يضع ولي الأمر بصمته الساحرة بأي لون من الحبر، ولتتأكد من عدد القبلات التي وضعتها بالنيابة عن الحبر، تقول وهي تمسح دمعة ذرفت من أجل محتويات الخزانة الغالية ومن تستعيد معها: ليتهم يكتبون «فقيد العمر» بدلاً من «ولي الأمر» حتى أجيب عن جرح الصغير حين يبحث عنه فلا يجده، سيعتاد مع الزمن أكثر على «فقيد العمر» لكن من أين أحضر له «ولي أمر»! [email protected]