احتدمت أزمة الديون السيادية الأوروبية وضاقت فرص معالجتها إذ لم تفلح سلسلة قمم في لجم المخاوف، وبدأت منطقة اليورو تبحث عن موارد لتمويل خطط الإنقاذ وتسعى إلى جذب الدعم من الدول التي تتمتع بوفرة في السيولة، فأخذت تغازل الصين صاحبة الاحتياط الأجنبي الذي يناهز 3.2 تريليون دولار، وكذلك الصناديق السيادية في دول مجلس التعاون الخليجي في محاولات لاستقطاب استثمارات، سواء في السندات الحكومية أو في إعادة رسملة المصارف التي تحملت جزءاً من عبء الديون، أو في صندوق الإنقاذ الأوروبي. تحتاج المصارف الأوروبية إلى ما يزيد على 108 بلايين يورو لإعادة إنعاش رؤوس أموالها، وهذه نافذة يمكن الصناديق السيادية الخليجية أن تطل منها على الاقتصاد الأوروبي. لكن المسألة قد لا تكون سهلة، كما أن الطلب على أموال تلك الصناديق يزداد لإنقاذ مصارف على وشك التعثر نتيجة انكشافها على ديون اليونان وإرلندا والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا. فعندما تعثرت الوحدة البلجيكية لمصرف «ديكسيا»، أبدى صندوق الثروة السيادية القطري رغبة في شراء حصة فيها لكن السلطات البلجيكية عارضت، ويرى خبراء أن هذا يمكن أن يشكل سبباً لعزوف بعض الجهات عن الإقبال على فرص مشابهة. وكانت قطر ضخّت نصف بليون دولار في صفقة اندماج مصرفي «أي إف جي يورو بنك» و «بنك ألفا» اليونانيين استحوذت بموجبها على 16 في المئة من رأس مال المصرف الأكبر في البلد. كما أفيد بأن الشركة المساهمة «برسيزون كابيتال» المملوكة من قطر ستشتري ببليون يورو مصرف «كاي بي إل بنك» ومقره لوكسمبورغ. أبو ظبي ويبدو «جهاز أبو ظبي للاستثمار»، الصندوق السيادي الأكبر في العالم بسيولة تتجاوز 600 بليون دولار، حذراً حالياً بعد تجربته مع مجموعة «سيتي غروب» الأميركية عام 2007 حين اشترى حصة من أسهم المصرف بأكثر من سبعة بلايين دولار، وجاءت النتيجة عكسية إذ تهاوت أسعار الأسهم بعد أشهر. كما أن مساهمة أبو ظبي في إنقاذ دبي من كبوتها المالية قبل سنتين يعزز الحذر الذي تنتهجه إزاء خوض مغامرات جديدة خصوصاً في الخارج. وكانت الكويت أكثر وضوحاً في إبداء رغبتها في الاستثمار في أوروبا وعبّر عن ذلك وزير المال مصطفى الشمالي، الذي أعلن أن بلاده تدرس شراء أصول في أوروبا بعد تراجع الأسعار بسبب أزمة الديون في المنطقة، لكنها لم تتخذ قرارات محددة. وقال: «لم نحدد أي قطاع للاستثمار في أوروبا، لكن كل القطاعات مفتوحة لنا». وأضاف: «كل المعروض حالياً، علينا أن نفكر فيه وندرسه جيداً ثم نقرر». وزاد أن الكويت تعلم بوجود استثمارات محتملة «في قطاعات مختلفة في عدد من الدول في أوروبا». وتابع أن الأزمة الأوروبية: «ستؤثر، لكن التأثير لن يكون كبيراً بالنسبة إلينا. ننتظر لمعرفة ما الذي سيفعله الأوروبيون في شأن اقتصادهم». وعلى رغم التطمينات إلى أن دول الخليج لن تتأثر كثيراً بأزمة الديون في منطقة اليورو لأن لمصارفها انكشافاً محدوداً على ديون المنطقة، يتوقَّع أن ينعكس انكماش الاقتصاد الأوروبي الكلي عليها بطريقة أخرى لجهة تراجع استهلاك النفط الذي يشكل المصدر الأول للمداخيل في دول مجلس التعاون. وسبق لمحافظ المصرف المركزي العُماني، حمود بن سنجور الزدجالي، أن قال على هامش مؤتمر مصرفي في فرانكفورت إن «الاستثمارات في السندات الأوروبية من قبل المصارف في مجلس التعاون الخليجي ليست مرتفعة جداً». وأضاف: «أثر مشكلات منطقة اليورو لن يكون ضخماً، لكن اقتصاداتنا تعتمد على النفط وإذا حدث أي تباطؤ كبير في أوروبا وأنحاء أخرى من العالم فهذا سيجعل أثره في سعر النفط يؤثر فينا». المصارف السعودية ويرى خبراء أن توجيه السيولة الخليجية إلى أوروبا لن يتيح للصناديق السيادية الاستفادة من العائدات الاستثمارية، التي قد لا تكون مرتفعة في البداية وحسب، بل سيسمح أيضاً لدول مجلس التعاون بزيادة تأثيرها في الاقتصاد العالمي. وستكون الفرصة مناسبة للمصارف السعودية لإبراز قدراتها في أوروبا عبر شراء حصص في مصارفها بما يفتح أسواقاً جديدة لها، ويمكنها من تسويق الصيرفة الإسلامية واستغلال خبراتها في هذا المجال خصوصاً أن الأسواق الأوروبية تتطلع إلى أنماط جديدة من عمليات التمويل وقد تجد الإجابة في الحلول الإسلامية. فالمصارف السعودية قادرة على الاستفادة من الخبرة التي اكتسبتها في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين حين تحوّلت إلى العمليات المصرفية الإسلامية، ويمكنها نقل هذه المعرفة إلى السوق الأوروبية، وهذا يفتح آفاقاً أوسع أمام المصارف السعودية في الوصول إلى أسواق المال الأجنبية. دور الدول الناشئة ويسعى المسؤولون الأوروبيون إلى جذب دول ناشئة مثل الصين والبرازيل والهند ودراسة كيفية استقطابها تحت مظلات دولية مثل صندوق النقد الدولي، وهذا ما يجب أن يحفّز دول مجلس التعاون على حجز حصتها من السوق الأوروبية. وعلى رغم الفائض المالي الذي تتمتع به الصناديق السيادية الخليجية فإن مساهمتها في عملية إنقاذ منطقة اليورو ستبقى محدودة في ظل ضخامة المتطلبات وكبر حجم الاقتصادات وتراكم الديون. لذلك، فإن الأطراف الخليجيين يدرسون أي صفقات جديدة في شكل معمق لناحية ما إذا كان الوضع الاقتصادي والسياسات الحكومية لدول الاتحاد الأوروبي تؤمّن ضمانات وعائدات لاستثماراتهم، في حين تؤمّن مناطق أخرى مثل آسيا خيارات أفضل. ويرى بعض المحللين أن بلدان «الربيع العربي» قد تكون وجهة أكثر تفضيلاً للاستثمارات الخليجية. فهذه الدول تشهد تراجعاً اقتصادياً وهي في الأصل تحتاج إلى مشاريع تنموية كبيرة تساهم في حل مشكلات الفقر والبطالة والتعليم والصحة. وعليه، فإن توجيه السيولة الخليجية الفائضة إلى هذه الدول سيشكّل قراراً استثمارياً أفضل. ويتوقع المراقبون المتشائمون انهياراً مدوياً للصناديق السيادية إذا ما قررت الاستثمار على نطاق واسع في الدول الغربية مع استمرار أزمة الديون وتعمق أزمة القطاع المالي العالمي. ويشير بعضهم إلى أن الصناديق التي كانت تملك 600 بليون دولار كفوائض، لم يبق لديها دفترياً سوى 250 بليوناً، وبالتالي فإن هذا المبلغ قد يتبخر في سنتين أو أكثر.