عندما تجددت في القاهرة مطلع هذا الاسبوع تظاهرات الاحتجاج عبر ميدان التحرير، كان مبعوث الاممالمتحدة في اليمن جمال بن عمر، يصوغ مواد صفقة مصالحة مباشرة بين الرئيس علي عبدالله صالح وخصومه. لهذا السبب، طالب قادة الفريقين المتنازعين مجلس الامن، منحهم فرصة جديدة لاستكمال خريطة الطريق. وقد حصل المبعوث على الفرصة المطلوبة بهدف التأكد من صلابة الصفقة السياسية التي رسم خطوطها. وفي ختام مهمته السرية قدم جمال بن عمر الى مجلس الامن، تقريراً مفصلاً تحدث فيه عن المساعي التي بذلها من اجل حل الازمة اليمنية، وإقناع الرئيس صالح بأهمية عقد اتفاق حول الانتقال السلمي للسلطة. وذكر المبعوث انه اعتمد المبادرة الخليجية كقاعدة مركزية لعمله، خصوصاً ان الرئيس صالح اعلن موافقته عليها، وانما لم يوقعها. والسبب انه طالب بضمانات تحميه هو وأسرته من الملاحقة القانونية، وتمنع عنه الاذى الجسدي، وتطلق حريته في السفر والتنقل داخل البلاد وخارجها. وتقول المعلومات ان الشرط المبدئي الذي طرحه الرئيس صالح كمنطلق للموافقة على المبادرة الخليجية، كان حصوله على ضمانات العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز، باعتباره كان اول من قاد عملية المصالحة بين الرئيس وخصومه. وذكر التقرير ان قادة المعارضة مختلفون على اولويات شروط الرئيس، ولكن بينهم من اعرب عن رغبته في فتح الحوار معه مثل: اللواء المنشق علي محسن الاحمر والشيخ حميد الاحمر (التجمع الوطني للاصلاح – اسلامي) والشيخ صادق الاحمر، زعيم قبيلة «حاشد». المهم ان الجهود السعودية والعربية والدولية اثمرت عن تحقيق اتفاق تاريخي سلمي تنتقل بموجبه سلطة الرئيس علي عبدالله صالح الى نائبه عبد ربه منصور هادي، بعد مرحلة انتقالية من تسعين يوماً. وقد رعى العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفلة توقيع الاتفاق في الرياض، داعياً جميع الاطراف في اليمن الى بناء دولتهم، مؤكداً لهم ان المملكة ستبقى العون والعضد في كل مراحل المستقبل. ووعد الرئيس صالح الحاضرين بأنه سيدعم المبادرة، ويساعد على انتقال سلمي وسلس للسلطة، متمنياً للعاهل السعودي النجاح في عملية رأب التصدع الوطني اليمني. مقابل اجواء الهدوء والترقب التي ميزت الساحة اليمنية هذا الاسبوع، كانت الساحات المصرية تشهد اكبر تظاهرات الاحتجاج منذ تظاهرات كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) الماضيين. ومع ان الاسباب الحقيقية للانفجار ضاعت وسط عشرات المطالب المطروحة فوق يافطات الثوار، إلا ان دوافعها السياسية بدأت تتكشف عقب الخطاب الذي ألقاه المشير محمد حسين طنطاوي، رئيس المجلس الاعلى للقوات المسلحة. لذلك سارع المشير الى اعلان قبلول استقالة حكومة الدكتور عصام شرف وتكليفها بمهمة تسيير اعمال الدولة الى حين الانتهاء من تشكيل حكومة جديدة. علماً ان سقوط قتلى في ميدان التحرير، حفز وزير الثقافة عماد الدين ابو غازي على تقديم استقالته احتجاجاً على المعالجة الخاطئة. وعندما شعر المشير طنطاوي بأن الحكومة لم تعد قادرة على تهدئة الشارع، سارع الى اعلان رحيلها وأوكل مهمة تشكيل حكومة جديدة الى كمال الجنزوري. والمؤكد ان هذا الحل السريع لم يكن مرضياً لجماهير الشارع الغاضب، خصوصاً ان حكومة عصام شرف لم تكن اكثر من غطاء سياسي لاخفاء اخطاء المجلس الاعلى للقوات المسلحة. وهكذا اكتشفت الحشود بعد احد عشر شهراً، ان غياب حسني مبارك عن رأس النظام لم يحجب تأثيره الممثل بصديقه المشير محمد الطنطاوي. لذلك توالت الهتافات المرددة: «ارحل... ارحل يا مشير، خلي مصر تشوف النور». ومع انطلاق موجة الغضب الثانية في شوارع القاهرة والاسكندرية والاسماعلية، انطلقت انتقادات التحذير من عواقب انتقام المتظاهرين والمعتصمين. وكان امين عام الجامعة العربية نبيل العربي اول من ناشد المسؤولين عن الامن التحلي بالصبر حفاظاً على المكاسب السياسية التي حققتها ثورة 25 كانون الثاني (يناير) الماضي. واغتنم المتنافسون على معركة الرئاسة هذه الفرصة الذهبية لإعلان انتقاداتهم لأداء الحكومة، مطالبين المجلس العسكري بضرورة تحديد موعد تسليم السلطة وإنهاء المرحلة الانتقالية. وأعرب الدكتور محمد البرادعي، المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية، عن استنكاره لأحداث العنف بين المتظاهرين ورجال الشرطة. ومثله فعل المرشح الآخر لمنصب الرئاسة عمرو موسى، الذي طالب المجلس العسكري بممارسة مسؤولياته الاساسية في الحفاظ على الامن وأرواح المواطنين. كذلك دعا مرشح الرئاسة حمدين صباحي، الى تشكيل حكومة انقاذ وطني ائتلافية تتولى ادارة المرحلة الانتقالية والإشراف على إجراء الانتخابات النيابية في موعدها. اما عصام العريان، نائب رئيس حزب الحرية والعدالة (الاخوان المسلمون) فقد دان العنف المفرط في ميدان التحرير، واتهم الجيش بافتعال ازمة تقود الى الفوضى والاقتتال بهدف تعطيل الانتخابات النابية المقررة يوم الاثنين المقبل (28 الجاري). ويستدل من طبيعة الارقام التي تنشرها الاحزاب الدينية في مصر بغرض التأثير في الرأي العام، انها ستكون ابرز الفائزين في الانتخابات. وتدعي ان فصائلها الثلاثة – «الاخوان المسلمون» والسلفيون والجماعة الاسلامية – ستحصل على ما نسبته 40 في المئة من اصوات الناخبين. وهي تتوقع انضمام الناصريين الى تيارها باعتبارهم من المطالبين بإلغاء اتفاقية السلام مع اسرائيل. وكانت سفارة اسرائيل في القاهرة تعرضت لاقتحام المتظاهرين يوم التاسع من ايلول (سبتمبر) الماضي. وهرب السفير في حينه اسحق ليفانون، مع الموظفين والطاقم الامني. وليفانون هو نجل الجاسوسة التي لعبت دوراً مهماً لمصلحة «الموساد» في لبنان. ورأت الحكومة المصرية في عودته المفاجئة احراجاً متعمداً كأنه يمتحن وعدها بتأمين الحماية لمبنى السفارة الجديد، خصوصاً ان الحكومة المستقيلة كانت قد وافقت على تعيين السفير يعقوب أمتي خلفاً له. يقول المراقبون في القاهرة، ان الاسباب الخفية التي تكمن وراء تجدد التظاهرات، كانت بايحاء من «الاخوان المسلمين» الذين حرصوا على عدم اغضاب المجلس العسكري. وحجتهم ان وثيقة المبادئ التي اعدها نائب رئيس الوزراء علي السلمي، كانت تتضمن بندين مناقضين لطبيعة المبادئ الديموقراطية. البند الاول يحدد دور الجيش بحماية الدولة والحفاظ على وحدتها وأمنها وشرعيتها الدستورية. والبند الثاني يعتبر المجلس العسكري الاعلى، المسؤول الحصري عن كل الشؤون المتعلقة بالجيش، بما فيها موازنة الدفاع التي تندرج في بند خاص ومستقل داخل موازنة الدولة. وفي ملحق منفصل اقترح علي السلمي انشاء مجلس للامن القومي – على غرار الولاياتالمتحدة – يكون مسؤولاً عن فحص كل الشؤون المتعلقة بأمن الدولة. عند دراسة وثيقة المبادئ اعترض «الاخوان المسلمون» على الثغرات التي تتضمنها، والمخالفة اصلاً لتطلعات المحتجين والمتظاهرين. ذلك ان حصر مهمة الحرب والسلم بمجلس الامن القومي، يمنحه كامل المسؤولية لتقرير العلاقة مع اسرائيل. وأيدهم في رفض البندين الاولين زعماء الحركات الدينية المتطرفة الذين اعترضوا على تحديد الهوية الوطنية لمصر بأنها «دولة مدنية ديموقراطية» واعتبروا ان كلمة «مدنية» تمثل لغماً سياسياً خفياً يشير الى علمانية الدولة. وبين النصوص الاخرى التي أثارت الاحتجاج، كان النص المتعلق بانتخاب اعضاء لجنة صوغ الدستور. وبموجب هذا النص، فإن تركيبة اللجنة تحتاج الى ثلثي اعضاء البرلمان للمصادقة على عملها. وبما ان من الصعب على أي حزب الحصول على ثلثي اعضاء المجلس، فإن عملية صوغ الدستور الجديد ستتأخر، الامر الذي يترك شؤون الدولة بين ايدي المجلس العسكري الاعلى. يوم الثلثاء الماضي، اعلن المشير طنطاوي عن استعداد القوات المسلحة للعودة الى الثكنات وتسليم السلطة فوراً، اذا اراد الشعب ذلك من خلال استفتاء عام. ووعد بإجراء انتخابات الرئاسة بحلول نهاية شهر حزيران (يونيو) 2012. وكان من المستغرب ان تقابله الجموع المحتشدة في ميدان التحرير بصيحات الاعتراض وهتافات «ارحل... ارحل». والثابت ان الشارع المصري، على اختلاف عناصره، وصل الى استنتاج مفاده ان المجلس العسكري لم يفعل كل ما في وسعه لنقل السلطة الى المدنيين. وقد تعمد اقحام دوره في وثيقة علي السلمي، مقلداً بذلك دستور كمال اتاتورك الذي جعل من الجيش رقيباً وحامياً لمكاسب ثورته. وبقي ذلك الجيش محتفظاً بنفوذه القوي على الحكومات المدنية، الى ان وصل اردوغان الى الحكم سنة 2003 وأحكم سيطرة حزبه على الجيش، وسلبه كل امتيازات الاتاتوركية. في زحمة البحث عن مخرج لائق للانتخابات المقررة يوم الاثنين المقبل، اكد المجلس العسكري حرصه على اجرائها في موعدها، علماً ان اللجان الشعبية المنتمية الى القوى السياسية المشاركة تشكو من فقدان اجهزة الرقابة التي يفترض ان تعينها الحكومة. وربما استخدمت الاحزاب السياسية هذه الذريعة لمقاطعة الانتخابات، مثلما اوحى بطريرك الاقباط البابا شنوده الثالث في عظته الاخيرة. ومعنى هذا ان المجلس العسكري و «الاخوان» هما وحدهما المستفيدان من اجواء الفوضى، وأن انتصارهما يوم الاثنين المقبل، سيعبّد الطريق لثورة ثانية يكون ضحيتها محمد حسين الطنطاوي وحزب «الاخوان»، الذي رأى في فوز الغنوشي في تونس قدوة يمكن مصر الاقتداء بها. * كاتب وصحافي لبناني