يتداول الناس هذه الأيام مقطعاً مقززاً يحوي عمليات ذبح جماعية يمارسها جلاوزة النظام الوحشي السوري يوم عيد الأضحى المبارك، إذ يقوم وحوش نظام الطاغية بجز رقاب بعض المحتجين كما تجز رقاب النعاج. ليس غريباً أن ينحدر هذا النظام الشمولي الشيطاني إلى مثل تلك الممارسات السادية والمتجردة من الإنسانية، مادام لا يعرف أن يعيش إلا على الفتن ولا يقتات إلا من الدم. وقبل أن يستفحل هذا السُعار البعثي، كانت القطعان الوحشية لتنظيم القاعدة الإرهابي قبل أعوام خلت ترتكب مثل تلك الأعمال الرهيبة في العراق، مستغلة حال الفوضى العارمة التي عصفت بالبلاد بُعيد سقوط نظام المشنوق صدام حسين. كان بعض الناس والمتعاطفين مع «القاعدة» وزعيمها المقتول، يتداولون في إعجاب روابط «إنترنتية» تصور ثلة من الإرهابيين الملثمين وهم يبطحون ضحيتهم المغلوبة على أمرها، وينحرونها في أجواء هيستيرية مرضية ووسط صيحات «الله أكبر»! إذا كانت سلوكيات النظام القمعي السوري ومثله تنظيم القاعدة الإرهابي توصم بالشذوذ وبالوحشية بسبب منافاتها لقيم العصر السائدة وبسبب انتشار ثقافة حقوق الإنسان، فإنها لا تعتبر تمرداً على السياق التاريخي الذي تستلهم منه الطواغيت والعناصر الإرهابية معاييرها الأخلاقية ومكوناتها الثقافية. لا أقصد من هذا القول إدانة الماضي وتحميله وزر هذا العبث الجنوني والانفلات الإنساني. ولكن، الماضي لم يكن مداراً تسبح فيه الملائكة فقط، بل كانت هناك شياطين تطير فيه. أدرك جيداً أن الاقتراب من أسوار التاريخ الشائكة بالمساءلة أشبه بمغامرة محفوفة بالمخاطر. الاقتراب بمشارط النقد وأدوات البحث من تخوم التاريخ يكاد يتداخل مع المساس بقدسية الدين عند الأكثرية. سمعت أحدهم مرة يعلق في استياء على أمنية المطرب الشعبي «شعبولا» (شعبان عبدالرحيم)، وذلك عندما أفضى لجورج قرداحي في برنامج «من سيربح المليون» قبل أعوام مضت بأمنية عجيبة، وهي أن يدعى بمثل ما كان الخلفاء العباسيون يدعون، كالمستنصر بالله، أو القاهر بالله، أو المسترشد بالله. قال لي صاحبي: «استغفر الله، كيف يجرؤ على مثل هذا القول!»، حمداً لله أن المدونات التاريخية وصلت إلينا من دون أن تعبث بها أصابع الخلف حتى لا تكتب لنا تاريخاً ينسجم مع شهواتهم ويتعانق مع أمنياتهم. من قال لك يا صاحبي أن خلفاء بني العباس كانوا أيقونات سماوية؟ كم هو عجيب أمرنا نحن العرب. على رغم أننا لا نزال نسكن بين جدران الماضي وبين صفحاته إلا أننا لا نجيد قراءته كما هو! التقط ما تشاء من كتب التاريخ القديمة. خذ مثلاً «تاريخ الرسل والملوك»، أو «المختصر في أخبار البشر»، أو «المنتظم»، اقلب أي سنة تشاء، وأي صفحة تشاء، وانظر إلى بحور الدم التي يسبح فيها تاريخك. سافر إلى أزمنة الأمويين، أو العباسيين، أو المماليك، أو العثمانيين... شاهد شلالات الدماء التي سالت وعناقيد الرؤوس التي تساقطت من أجل أطماع الدنيا المتلفعة بالدين. لا شيء يلمع في ليل الماضي قدر هذا السيف. كم عدد الرؤوس التي قطفتها السيوف؟ صدقني سوف تنهك قبل أن تحصي لها عدداً. لقد أطار السيف رؤوس رجال أخيار ورؤوس رجال أشرار. فكم من رأس جُز وطيف به على رمح؟ وكم من رأس قطع ثم أُلقي في حِجْر الزوجة؟ وكم من رأس رص في خزائن الخلفاء والملوك؟ دعني أروي لك حكاية مختبئة في شقوق التاريخ لشدة صغرها. ذات يوم، جلس الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك على المنبر يوم الجمعة حتى اصفرت الشمس، فقام إليه رجل فقال: «يا أمير المؤمنين، إن الوقت لا ينتظرك، وإن الرب لا يعذرك»، فقال «صدقت، ومن قال مثل مقالتك، فلا ينبغي له أن يقوم مثل مقامك. من ها هنا من أقرب الحرس يقوم إليه فيضرب عنقه؟». أي ذنب اقترفه هذا الرجل حتى يطاح برأسه؟ ما الفرق بين حياة هذا الرجل وحياة الذبابة؟ لا شيء للأسف! من أجل كلمات بسيطة طارت رقبته، فماذا عن أولئك الآخرين الذين ينازعون السلطان ملكه؟ نسير دوماً بمحاذاة ضفاف التاريخ من دون أن نرى لون النهر الأحمر. البعض يراه وردياً والبعض يراه أبيض، سنتحجج بالإسرائيليات لننكر وحشية التاريخ. ولكن، حتى لو أغمضنا عيوننا عن سوءات التاريخ، فإن جيناته تنبض في دواخل أولئك الأحفاد الذين قطعوا رؤوس ضحاياهم في سورية والعراق. [email protected]