يقارب الروائيّ الأستراليّ ديفيد معلوف (1934) في روايته «الإرهابيّ»، (دار التكوين، 2011، ترجمة سعدي يوسف) صوراً من حالاتٍ مريرة قد يمرّ بها المرء. يتماهى مع بعض مقولات التحليل النفسيّ، يروي فصولاً متخيّلة من سيرة رجل يدّعي أنّه إرهابيّ قاتل، ويجاهد ليثبت أنّه كذلك، غير أنّ جرائمه تظلّ قيد الخيال، ويبقى هو إرهابيّ الخيال، يقتل بالتخيّل، يتخيّل الجرائم التي سيرتكبها، ثمّ المطاردات والملاحقات التي سيتعرّض لها، أو التصفيات التي يمكن أن يقع ضحيّتها. يقتل ويُقتَل بالخيال والتخيّل. يقدّم معلوف جوانب من حياة رجل في نهاية العقد الثالث من عمره، يعيش حياة كئيبة موحشة في جوّ المدينة الذي تتشابه فيه الوجوه وتمّحي الخصوصيّات، إذ يتقولب المرء، ويترقّم، ويعيش حياة قاتمة كأنّه يعيش في الخفاء، حيث الكلّ مشغول بنفسه وعمله، يعيش وحيداً منعزلاً رغماً عنه، لتكون حياة المدن شبيهة بالحياة في الخفاء، يتسرّب الضجيج الخارجيّ والزحام المزمن إلى الروح، فيفرضان نوعاً من القيد والارتهان والتبعيّة. يتقدّم الرجل الإرهابيّ بهويّته المجهولة، يبرّر أسباب إخفائه هويّتَه، يسرد تفاصيل عن حياته، هو الذي يفترض به أنّه ينتمي إلى شريحة المثقّفين، يعمل في جوّ من الريبة والتخطيط للجرائم، تُوْكل إليه مهمّة التخطيط لقتل أحد الروائيّين البارزين، فينغمس في حياة ضحيّته المفترضة، يقتحم عوالم رواياته، يتماهى مع شخصيّاته الروائيّة، يستمتع برفقتها، يحاول تفتيتها وقتلها تمهيداً منه لقتل مبدعها، ثمّ يكون انشغاله المستمرّ طيلة الرواية على إتمام عمليّته التي لن ينفّذها حقيقة. يعتمد البطل في سرده الروائيّ على الصور، يتحدّث عنها بالتفصيل، تشكّل تلك الصور الملتقطة بؤراً للعبه، هو الذي لا يتوانى عن تأكيد أنّه ساعٍ إلى تصفية ضحيّته المفترضة. يحتلّ حديث الصور حيّزاً كبيراً في لعب الإرهابيّ، ينتقل من الصور إلى تلك اللحظات التي أثبتتها أو المفارقات والمواقف التي احتفظت بها، يفترض ما سبقها وما تبعها من مجريات ووقائع، يحلّل التصرّفات والحركات، يتغلغل إلى ما وراء الصور، يفكّك شيفراتها، يحمّلها أحياناً ما لا تحتمله من تأويلات. يختار الثغرات التي سينفذُ من خلالها لمحاصرة ضحيّته، ليتمكّن من تنفيذ جريمته، وذلك كلّه ضمن نطاق لعبه الطفوليّ الذي يرمي عبره إلى تأكيد ذاته بإلغاء ذوات أبٍ تلبّسه ولا يرضى مزايلته بسهولة ويسرٍ. يتحدّث الإرهابيّ البريء عن علاقاته مع مَن حوله في مقرّ عمله، كارلا، أنتونيللا، وغيرهما، يصرّح بأسماء مرافقيه، لكنّه يحتفظ بتكتّمه على هويّته الحقيقيّة، كأنّما تكون الحقيقة مجازه المرصود، أو مثاله المستعصي. يسرد بعضاً ممّا يدور في عتمة البناية التي تنغلق على مكائد ودسائس ومخطّطات الجرائم الإرهابيّة المفترضة، يصف الأجواء الكابوسيّة التي تخيّم عليهم وهم يلوذون بأسباب غير مقنعة للقتل، حيث قتلة مأجورون يفترض بهم قتل مَن يُراد منهم قتله، من دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء البحث عن أسباب للقتل. يوحي أنّه بصدد ارتكاب جرائمه ولا يرفّ له جفن، لكنّه في الحقيقة يعيش وهم الجريمة ومأساة تخيّلها، حتّى وإن حرص على إبداء عكس هذه الصورة، يظلّ متأرجحاً بين الجانب الأدبيّ فيه، وذاك الجانب الخفيّ الذي يدفعه إلى تأكيد ذاته، والتلذّذ بقتل الروائيّ الذي يشكّل عقبة أمام تقدّمه. يجد الإرهابيّ نفسه أمام فيض من الذكريات تنهمر عليه، يتذكّر نفسه حين قرأ روايات ضحيّته تباعاً، يستغرق في بحر تداعياته، يبوح لنفسه بحقائق ظنّ أنّه نسيها لشدّة محاولته تناسيها، يكتشف أنّه يعيش حقيقته حين يضع الأقنعة التي تريحه من المواجهات. الذاكرة من محفّزات العيش لديه، تمنحه فسحة من اللعب والسياحة والاطمئنان، في حين يكون الخيال وسيلة من وسائل تعذيبه وإراحته معاً، يحار في ما يريد، يبقي نفسه في دوّامة الخيال جائلاً بين الجريمة والتندّم. يحاول تفسير حقيقة الجريمة التي يقرّ بأنّها وضع لا يسهُل تعريفه، لكنّه يؤكّد لنفسه حقيقته لأنّه كان يوهم نفسه بأنّه كان يحيا حقيقيّتها. وبينما هو يرمّز الأمكنة، ويقسّم الأزمنة إلى قبل وأثناء وبعد، وكلّها في سياق التخيّل المتوقّع تطبيقه، فإنّه يبوح بتفاصيل دقيقة عمّا ينوي القيام به، ما فعله ويفعله في درب جريمته، وبغية أن يمنح الجريمة الهيئة والتفصيل، وأن يجعلها حتميّة في حياة الضحيّة، إن لم تكن في حياته، فإنّه يقضي ساعات طوالاً يتملّى كلّ ما قاله وفعله، عبر الصور الفوتوغرافيّة، وقُصاصات الصحف، ومقالات البحث، وكلّ الدفق الغنيّ لمخيّلته، ليكتشف في ذلك النسيج الكثيف من الخبرة والحدث، الخيطَ المؤدّي إلى ساحة سانت أوغسطين وفوّهة المسدّس. ذلك أنّه يحتفظ بعلاقته الحميمة بعدّته وذكرياته معاً، لتكون من أدواته المساعدة في تنفيذ مخطّطه. لكنّه يدخل قارئه في حيرة متجدّدة حين يقرّب له نيّته المبيّتة، حيث تنجز الجريمة حقيقتها في نقطة تتلو بوقت طويل لحظة حدوثها، ليكون الموقع الحقيقيّ لحدوثها أذهان ملايين القرّاء، والشكل الحقيقيّ ليس اللحم والدم والطلقات، وإنّما الكلمات: «اغتيال، قتل وحشيّ، جريمة نكراء، عنف أهوج، فوضى». ويصرّح بنوع من الهذيان، بأنّ ما يرتكبه هو جرائم لغة، «أيّ ضحيّة هو أكثر مناسبة من أديبنا العظيم؟ وأيّ مثار للسخرية أكثر، وأيّ تلاعب قاتل حسب طريقته أكثر، من إخضاعه إلى أكثر التعابير تفجّراً وابتذالاً، هذا الدخول في قلب تلك الحقيقة (اللاحقيقة)، أي حرب الكلمات». مَلعَبة طفل؛ هو العنوان الفرعيّ الذي يثبته الكاتب، يعبّر عن لعبين في آن، لعب الروائيّ بشخصيّاته، ومحاولة لعب الشخصيّات بالقرّاء، وذلك عبر الإيهام بأجواء إرهابيّة مفترضة، في حين أنّ الإرهابيّ المزعوم لا يتعدّى قاتلاً أدبيّاً يسعى لتأكيد ذاته عبر قتل أبيه الرمزيّ، الذي يشكّل له عقبة تحول دون تبلور كيانه الأدبيّ المنشود وكينونته المفترضة، لذلك يكون القارئ أمام لعب ثلاثيّ من قبَل الروائيّ الذي لا يتراجع عن إيهامه ولعبه الروائيّين، يستدرج قارئه إلى تخمين أنّ الجريمة واقعة لا محالة في الفصل اللاحق، وهكذا تتوالى الفصول، وتتسلسل الأحداث، من دون أن يكون هناك إرهاب حقيقيّ، بل يظلّ الإرهاب في طور التخطيط والترتيب، يعيش البطل أجواء جرائمه، يستمتع بتخيّل ضحّيته وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، أو ينازع للهرب من رصاصته دون جدوى، أو توسّله إليه ليطلق عليه رصاصة الرحمة.