لم أصادف في حياتي قضية تتحول إلى صناعة في فن التعقيد والجدل العقيم، مثلما تواجهه قضية قيادة المرأة السيارة، فقد استحقت بلا طائل الدراسات العلمية والإحصاءات الرقمية والنبوءات الفلكية والمراهنات السياسية وقياسات الرأي العام، ومن ثم استحقت العقوبة كالسجن أو الجلد في حالة منال الشريف ثم فتاة جدة «الأخيرة» بحسب ما نشرته جريدتي «الحياة» و «الوطن» منذ يومين. وفي حالة شيماء من جدة رأى القاضي في محكمة جدة أن قيادة الفتاة السيارة ليست «مخالفة مرورية»، على رغم عدم وجود نص نظامي يمنع ذلك، بل واعتبرها أكبر من ذلك، معتبراً إياها مخالفة ل «ولي الأمر». ومن هذا المنطلق يمكن أن نعتبر كل مخالفة لأي نظام مخالفة لولي الأمر! من الطريف في الأمر أنني وجدت في الإمارات وعلى عكس قضائنا، أن القضاة في الإمارات من الذين طالبوا بإيجاد وظائف للنساء في المحاكم وفي الشرطة، وهم الذين حموا حق المرأة في قيادة سيارتها، وأن تحفظ لها كرامتها في الشارع بقوانين صارمة، وصلت للتشهير بكل من يتعرض لامرأة، إلى درجة نشر صورة المتحرش في الصحف، حتى انعدمت هذه الحالات وأصبحت نادرة جداً بحسب تصريح قائد شرطة دبي. القضاة في الإمارات رأوا أن حماية المرأة وصون كرامتها هو في تمكينها من حقها ودعمها، على عكس ما يشاع لدينا بأن تمكين المرأة من حقها بالتنقل بمفردها وسط مركبتها - دون وسيط أو شريك أجنبي - هو تعريض بكرامتها وفتح باب للتحرش بها. الذي دعاني لكتابة هذا المقال، هو أن شيماء فتاة سعودية في جدة تسلمت صكاً شرعياً من المحكمة يفسر أن قيادتها سيارة في شوارع جدة مخالفة لولي الأمر، وقد استوجب هذا التفسير من القاضي الحكم عليها بعشر جلدات، ووزير العدل منذ أيام قطع لنا وعداً بأن المرأة تجد في القضاء عدلاً مساوياً لما يجده الرجل. لا أشك في صدق وعد الوزير، بل إنني أحسن الظن فيه، فهو يعتني بما نكتب ويبذل جهده ما استطاع في شرح وجهة نظره بالرد على ما تنشره الصحافة، لكنني وبكل أسف أجد أني مرة أخرى في مواجهة مع معالي الوزير لأقول: إذا كان الأمر كذلك يا معالي الوزير، فهل من العدل أن تحال سيدة بسبب مخالفة مروية إلى القضاء وتفسر بأنها مخالفة لولي الأمر، ويحكم عليها بالجلد؟ ولماذا لا تلتزم المحكمة بالنظام الذي ينص على أن هيئة التحقيق والادعاء العام هي الجهة التي تحقق وتوجه التهمة وتحيل إلى المحكمة، وليست دوائر الشرطة والمرور؟ ولماذا تختلف الأحكام في هذه القضية وفي القضايا الأخرى، وكأنها وجهة نظر، وليست وجهة عدل؟ قبل أشهر في الرياض أوقف المرور سيدة بصحبة زوجها تقود السيارة، وفي جدة أوقفت سيدة أخرى في جدة، ولم تتعدَ المخالفة سوى مخالفة تستوجب غرامة مالية، ان لم تسدد، ستقوم الجهة المخولة بسحب رخصتها، وهذا لغز آخر لكن دعنا نتجاوز هذا الأمر. هل من اختصاص المحكمة النظر في قضايا مخالفة النظام المروري، وإذا كان الأمر صحيحاً فهل يحدث هذا مع من يخالف النظام المروري من الذكور ويفسر أنه مخالفة لولي الأمر؟ هذه المرة لا نريد أن ننقذ امرأة واحدة، بل نريد أن يفتح وزير العدل ملف تصدي القضاة لقضايا ليست من تخصص المحاكم، وتعنتهم تجاه النساء في مجمل القضايا دون دليل، لأن الدليل الوحيد الظاهر لنا في بعض الأحكام هو المزاج الشخصي وخُلُق خاص بكل قاض. [email protected] twitter | @badryahalbeshr