بدت الأزمة السورية في الاشهر الثلاثة الاخيرة واقعة بين التهديدات والضغوط التركية من جهة والفرص والمبادرات العربية من جهة أخرى، دونما تنسيق واضح بين العرب وتركيا، اللهم إلا زيارات متبادلة بين وزيري خارجية الاردن وتركيا لم تخرج – أقله حتى الآن – بخطوات مشتركة ومشروع عمل واحد. وخلال هذه الفترة بدا أن ثمة حاجة واضحة الى تنسيق بين جامعة الدول العربية التي بقيت على اتصال مع النظام وأمهلته الفرصة تلو الاخرى وبين تركيا التي احتضنت المعارضة وعبرت أكثر من مرة أخيراً عن امكان تحركها ضد النظام السوري اذا حصلت على الغطاء الشرعي من العرب. لكن عوضاً عن التنسيق، يمكن القول إن التنافس كان طاغياً على هذه العلاقة إلى درجة انقلبت فيها الادوار عما كانت عليه ازاء المسألة الليبية، اذ بدت الجامعة العربية هذه المرة متمهلة حريصة على ايجاد حل عربي للأزمة من دون تدخل خارجي – أو هكذا يظهر حتى الآن – فيما ظهرت تركيا حريصة على حسم المشهد السوري من خلال تدخل عسكري خارجي بقيادتها، وهي التي كانت بنت استراتيجيتها الخارجية على ضرورة حل مشاكل المنطقة من خلال أهلها من دون اعطاء فرصة لتدخل خارجي يذكّر بما حدث في العراق. وتتجلى هذه المفارقة أكثر مع طرح الجامعة العربية مبادرتها لحل الأزمة السورية الشهر الماضي. هذه المبادرة فاجأت الجميع بخروجها إلى النور من اجتماع دعت اليه دول الخليج كان يهدف أصلاً الى اتخاذ قرار بتعليق عضوية سورية في جامعة الدول العربية والاعتراف بالمجلس الوطني السوري المعارض ممثلاً للثورة. وقد فاجأت دمشق الجميع بقبولها المبادرة وتأكيدها تنفيذ بنودها من دون تردد. إبراء ذمة؟ حار كثيرون في شأن المبادرة العربية، فهناك من رأى أنها كانت مجرد ورقة إبراء ذمة عربية تمهيداً لتدويل الملف السوري على اعتبار أن دمشق لن توافق على ما جاء في بنودها كما فعلت سابقاً، أو أنها ستعجز عن تنفيذها حتى لو قبلت بها، فيكون العرب في حلّ بعدها من الرئيس السوري بشار الأسد ونظامه. وهناك من اعتبر أن المبادرة كانت محاولة «صادقة» لإنقاذ النظام السوري بإعطائه طوق نجاه يجنّبه التدويل ويجنّب العالم العربي أزمة تحول سورية الى ليبيا جديدة أو عراق جديد، وبدا الموقف المصري هنا متشبثاً بضرورة ايجاد حل عربي للأزمة السورية، وتصاعدت التصريحات فجأة من أكثر من طرف وخصوصاً قطر عن ضرورة حل عربي في رسالة بدت وكأنها موجهة الى أنقرة التي احتضنت المجلس الوطني السوري وقسماً كبيراً من المعارضة السورية وبنى كثيرون آمالاً على تدخل عسكري من جانبها من أجل اقامة مناطق عازلة للمعارضة على الارض السورية. وكانت تركيا قد غذت تلك الآمال من خلال تصريحات مسؤوليها ومناورات جيشها على الحدود واحتضانها منشقين من الجيش السوري. عند هذه النقطة، ظهر قلق عربي من أن يؤدي تدويل الازمة السورية الى تقاسم إيران وتركيا الهيمنة على العالم العربي. فإيران تسيطر على العراق بعد خروج القوات الاميركية، وتركيا تسيطر على سورية إذا سقط نظامها، وتذوب الروح القومية العربية بين نموذجين ايراني وتركي ونماذج حكم اسلامية في الدول التي شهدت ثورات عربية. وفي المحصلة، فإننا سنشهد بعد ذلك ألواناً مختلفة لأشكال من الحكم الاسلامي على الطريقة الإخوانية العربية أو التركية أو الثورية الإيرانية، وهو ما يعني دفن الروح القومية العربية الى حين أو الى الأبد ربما. وكان ملاحظاً إيفاد قطر وزير الدولة للتعاون الدولي الشيخ خالد بن محمد العطية الى اسطنبول ليوضح للمسؤولين الاتراك أن الجامعة العربية تسعى الى حل عربي للأزمة السورية وأن تركيا صديقة للعالم العربي، لكن تدخل تركيا في شكل يسقط النظام في سورية ستكون له توابع سلبية في العالم العربي. والزيارة كانت ضرورية بعد أن أبدت تركيا استياءها من تقديم المبادرة العربية، اذ اعتبرها المسؤولون الاتراك مضيعة للوقت ومحاولة في غير محلها لسحب البساط من تحت قدمي الجهد التركي. وتبدّى هذا الانزعاج في توقيت لقاء وزير الخارجية أحمد داود أوغلو مع مسؤولي المجلس الوطني السوري بعد يوم واحد من اعلان الجامعة مبادرتها، علماً أن المجلس الوطني يرفض الحوار مع النظام وقال إنه غير معني بالمبادرة العربية، فجاء لقاء داود أوغلو دعماً لهذا الموقف. ومع اعلان دمشق قبولها المبادرة، جاءت تصريحات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان القاسية ضد النظام السوري وبشار الاسد والمهددة بتحرك قريب ضد سورية. وقبل أن تنتهي مهلة الاسبوعين التي منحتها الجامعة لدمشق لتنفيذ المبادرة، جاءت تصريحات مستشار الرئيس التركي أرشاد هورمزلو بأن تركيا مستعدة للتحرك في ما يتعلق بالشأن السوري ولديها القدرة على فعل الكثير ولكنها تنتظر الغطاء العربي لهذا التحرك، لترسل رسالة واضحة الى الجامعة العربية بضرورة ترك موضوع المبادرة والشروع في تعليق عضوية سورية وإعطاء شرعية لتحرك اقليمي تركي عربي مشترك من أجل حسم الامر على الارض السورية. وهو موقف يلقى الدعم والتأييد من الغرب. لكن السؤال هنا: هل يمكن الجامعة العربية بعد ما أبدته من حرص على ايجاد حل عربي للأزمة وتحييد الدور التركي من خلال مبادرتها وتصريحاتها، أن تعود وتطلب من أنقرة العون مستقبلاً من أجل حسم الملف السوري؟ ألن يكون هذا تضارباً صارخاً في سياسة الجامعة العربية؟ ألن تفتح الجامعة حينها الباب على التدخلات الاقليمية في الشؤون العربية وتشكل سابقة يخشى تكرارها مستقبلاً في ملفات أخرى؟ لماذا أغلقت الجامعة العربية فجأة الباب أمام دور تركي في سورية وماذا ستفعل إن فشلت خطتها ومبادرتها؟ لعل تصريحات أردوغان المتكررة في شأن سورية منذ بداية الأزمة أثارت حساسية لدى بعض الاوساط القومية العربية، فعلى رغم علم تركيا بأن تدخلها في سورية لا يمكن أن يكون إلا بغطاء أممي أو عربي، أطلق أردوغان لتصريحاته وتهديداته العنان في شكل استفز بعض القوميين العرب الذين أزعجهم هذا السجال التركي - الايراني على سورية وقلب العالم العربي. وبينما الانزعاج العربي واضح ظاهر من تدخل ايران في الملف البحريني، كان لا بد من أن يظهر انزعاج مقابل من تدخل تركيا في الملف السوري، خصوصاً بعد الحديث عن تدريب المنشقين السوريين عن الجيش على الارض التركية. تساؤلات وتحفّظات يضاف الى ذلك، أن الرعاية الكبيرة التي توليها أنقرة للمجلس الوطني السوري المرشح لأن يكون الممثل الوحيد والشرعي للمعارضة ومجلساً انتقالياً على غرار ما حدث في ليبيا، تثير تساؤلات وتحفظات لدى أوساط عربية عدة بل وداخل المجلس نفسه. فالحديث متواتر عن تنافس قطري - تركي وقع على احتضان المعارضة السورية وتشكيلها وقيادتها. وهذه التحفظات انعكست على جدول أعمال الجامعة العربية في تعاملها مع المجلس الوطني، بل ان التحفظات وصلت الى داخل المجلس نفسه وهو يبحث عن مركز له لفتح مكتب تمثيل له. وقد تعالت أصوات داخله منادية بالخروج من تركيا والذهاب الى تونس أو ليبيا بسبب الانتقادات أو الملاحظات المتوالية على هذه العلاقة «الافلاطونية» بين المجلس وتركيا والتي امتدت اتهاماتها الى حد التمويل والتوجيه من خلال علاقة حزب العدالة والتنمية الحاكم ببعض أعضاء المجلس الفاعلين والمؤثرين من التيار الاسلامي فيه. باختصار، فإن التعاون التركي - العربي في الملف السوري يحتاج الى مراجعة وربما الى اعادة تقويم، لأن التنسيق أفضل في جميع الحالات، فالضغط التركي قد يساعد الجامعة العربية – إن كانت صادقة في مسعاها – في إجبار دمشق على المضي قدماً في تنفيذ مبادرتها ولو بالتقسيط، وفي حال فشل المبادرة فإن تدويل الملف السوري سيحتاج الى دعم تركيا على الارض. ولكن قبل ذلك قد يكون من المهم توجيه أسئلة عدة إلى الجامعة العربية التي خرجت فجأة بمبادرتها، ثم سارعت الى الحكم بأن دمشق لم تنفذ بنودها اعتماداً على تقارير صحافية. وليست المشكلة هنا في الاعتماد على الصحافة للخروج بهذا الاستنتاج، فلا تشكيك بما جاء من صور تثبت انتشار الجيش في المدن والقتل العشوائي، لكن المشكلة في اعتماد الجامعة على تلك التقارير بينما كان من المفترض ارسال وفود للمراقبة على الارض والدفع للسماح بدخول الإعلام الدولي الى سورية وهو ما لم يحدث. وعلى رغم الاستنتاج أن دمشق لم تنفذ بنود المبادرة، دعي الى اجتماع جديد لوزراء الخارجية العرب بعد اسبوع كامل من هذا الاستنتاج من دون توضيح سبب هذا التأخير. وفي انتظار ايضاحات على هذه الاسئلة وسياسات الجامعة العربية تجاه الملف السوري، يبقى التنسيق بين الجامعة العربية وتركيا في شأن الملف السوري أفضل على رغم كل الهواجس القومية، على الاقل في ظل الاقتناع التام لدى الغالبية في العالم العربي بأن النظام السوري ليس في وارد الاصلاح السياسي وأنه مستمر في سياسة القمع الدموية حتى نهايته.