منذ انطلاقة ثورات الربيع العربي والتساؤل متواصل عن منظمي هذه التظاهرات، وعمن يقف وراء هذه الثورات. هل الحركات الإسلامية هي التي تثير الاحتجاجات وتنظمها، أم الحركات اليسارية والليبرالية والعلمانية أم غيرها؟ وهل للقوى الغربية التي عبثت بالمنطقة طويلاً يد في افتعالها ضمن مشاريع استعمارية جديدة باسم الشرق الأوسط الجديد أو الكبير كما كان يروج له أم ماذا؟ ومن؟ ولماذا؟ ولمصلحة من؟ لقد أجابت الثورات نفسها ومنذ البداية عن هويتها الجامعة وبأنها تحمل كل ألوان الطيف الفكري والاجتماعي والاقتصادي والسياسي أيضاً، فهي ليست ثورة الإسلاميين ولا المتدينين وحدهم، ولا ثورة القوى الليبرالية والعلمانية وحدها، ولا ثورة لون واحد وحده إطلاقاً. وإذا كان الفاعل الأكبر فيها هو قطاع الشباب وسميت باسمه، ثورة الشباب وحراك الشباب، إلا أنها كانت ولا تزال ثورات اجتماعية، فقد شاركت فيها النساء والأطفال والشيوخ والرجال، فلم تتقيد بعمر ولا بنوع اجتماعي ذكوري فقط، ولم تنحصر بالفقراء دون الأغنياء، ولا برموز السياسة السابقة، سواء التي كانت في صفوف النظام سابقاً أو صفوف المعارضة، وإنما كشفت عن وجوه سياسية جديدة، وهي على ندرتها، موجودة ومؤثرة ولو بدرجة قليلة. كل ذلك كان مؤشراً الى أن الثورات هي ثورات الشعب كله، الممتلئ بالمعاناة والشعور بعدم الثقة بالأنظمة القائمة وبأن الحكومات فاسدة ومستبدة وظالمة وفاشلة في إدارة شؤون المواطنين وفي إحداث توازن اجتماعي فضلاً عن فشلها في حكم رشيد أو اقامة عدالة اجتماعية أو حكم سياسي ديموقراطي، وبأنها مجرد عصابات حولت الأنظمة الجمهورية إلى مملكات وممتلكات خاصة، فاسدة بذاتها ومفسدة لغيرها، تستأسد على الشعب بأجهزة أمنية منتفعة ومنتفخة. وهذه الآلام لم يكن يشعر بها المواطن المتدين فقط، بل يتألم منها كل المواطنين، المتدين وغير المتدين، بغض النظر عن هويتهم الفكرية أو انتمائهم السياسي، فالمعاناة واحدة والأهداف واحدة ومصدر الظلم واحد، معروف ومحدد ومجاهر في ظلمه وفساده واستبداده، فلماذا لا تنفجر الثورة ويتحرك الشعب ضد غاصبيه ويحرر نفسه من طغمة حاكمة وأسرة طامعة لا تشبع ولا تقنع؟ وضع دستور جديد لم يكن شباب الثورة يشعرون بالفروق الفكرية أو الاجتماعية أو السياسية في ما بينهم، لا قبل الثورة ولا خلالها، وهم بعد إسقاط بعض الأنظمة هم كذلك وقادرون على وضع دستور جديد وانتخاب برلمانات وحكومات جديدة بأنفسهم، ومن دون الحاجة إلى التدخلات الدولية، ولكن الدول الغربية التي ربطت الأنظمة السابقة بالمساعدات المالية والفنية والعسكرية، وفشلت في ما مضى في فرض شرق أوسط جديد أو كبير، تحاول استغلال نفوذها السابق وسطوة مساعداتها السابقة في إيجاد قيادات سياسية لا تختلف عن سابقتها إلا بالشكل والعنوان فقط، فهي تريدها كسابقتها ذليلة تقر للغرب بسطوته وجبروته وهيمنته ونفوذه، وأنه في النهاية يجب أن يبقى صاحب القرار والمستقبل والمصير، ولضمان ذلك وبسبب سوء فهمه للإسلام، فهو يريد إبعاد الإسلاميين عن السلطة السياسية والقيادة الفعلية بقدر ما يستطيع، وبالأخص أن الأنظمة السابقة أقنعته بأن الإسلاميين تهديد للسلم الداخلي والخارجي معاً، وأنهم لا يصلحون لتسلم السلطة إطلاقاً، وأنهم إذا ما تسلموها فإنهم لن يكونوا متعاونين معه بل أعداء مثلما يقال عن «القاعدة» والتنظيمات التي يوصف عناصرها بالمتشددين والمجاهدين وغيرها من الأوصاف، وما فتئت منذ عقود تحذر الغرب من الحكومات الإسلامية والدولة الدينية والإسلام السياسي وغيرها، إضافة الى ما كان لبعض التوجهات الغربية من رغبة في قبول هذه التهم والأكاذيب. لقد تابع الغرب تلك الأكاذيب ولم يبال بتفحصها طالما ان مصالحه مضمونة من أنظمة ديكتاتورية واستبدادية وعائلات طامعة وفاسدة، ولكن نجاح الثورات في إسقاط المستبدين فرض على الغرب تحديات جديدة، من أهمها قبول التعامل مع من يوصفون بالمتدينين أو الأحزاب الإسلامية، بحكم أنها ذات تأييد شعبي كبير إذا ما جرت انتخابات حرة وديموقراطية فعلاً في هذه الدول، مثل مصر وتونس وليبيا واليمن وغيرها. وهو يحاول الآن تقوية العناصر التي تصف نفسها بالعلمانية والليبرالية ويغازل في الوقت نفسه القوى الإسلامية، ويحاول تحذيرها من إحداث انقلابات فكرية أو سياسية حقيقية إذا تولت السلطة السياسية في المستقبل، بل هو يناشدها أن تكون أصدقاء المستقبل، طالما أن الغرب يبحث عن أصدقاء جدد بعد سقوط أصدقاء الماضي، والغرب لا يبالي بأن يكون أصدقاء المستقبل من الإسلاميين طالما هم التزموا التعاون معه واحترام الاتفاقيات الدولية والتزموا الدستور الذي يسعى الغرب الى المشاركة في وضعه لضمان الاستقرار في المنطقة والازدهار فيها، فالغرب لا يخشى الدولة الدينية إذا كانت صديقة له ومتحالفة معه، ولكن الدولة الدينية مفهوم سلبي في التصور الغربي أولاً، والتعاون معها صعب، لأنها مقيدة بشريعة ثابتة، ولذلك فإن تحذيرات الغرب من الدولة الدينية ومطالبته بالدولة المدنية، هو لضمان التعاون معها ولحفظ حقوق كل المواطنين فيها أياً كانت انتماءاتهم الدينية وهوياتهم الثقافية ورؤاهم السياسية. ولذلك ينبغي على الإسلاميين وهم يقتربون من حصاد بعض تضحياتهم بعد قرن كامل تقريباً، أن يدركوا أن العالم، ومنذ الحرب العالمية الثانية، لا يعيش في دول مستقلة، وإنما في دول عالمية، لأنها كلها أعضاء في منظمة الأممالمتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، وهي ترتبط بالمجتمع الدولي بأكثر من معاهدة دولية، لذا فإن دولهم المقبلة لا تستطيع أن تكون خارج هذا العالم الدولي، لا في جغرافيته ولا في التزام مواثيقه ومعاهداته، ولذا فإنهم معنيون في صوغ دول عصرية هي جزء من المجتمع الدولي، وميزتها الجديدة أنها هي دول شعبها كله، بكل قواه، ووفق تمثيله النيابي في الداخل ووفق تمثيله بإمكاناته الخارجية، ولذا لا تملك الحركات الإسلامية الامتداد الشعبي الداخلي ذاته مهما بلغت تمثيله النيابي والانتخابي أن تصنع دولة متعارضة مع تمثيله الدولي الخارجي، فلا تملك أن تصنع دولة خارجة على القانون الدولي، أي أن الإسلاميين اليوم وبعد نجاح بعض الثورات أمام تحدي التجاوب مع المطالب الداخلية في تحكيم الشريعة الإسلامية، وأمام تحدي التجاوب مع المطالب الدولية في تحكيم القانون الدولي، ولا تستطيع أن تختار أحدهما دون الآخر. التحدي الأكبر هذا التحدي هو التحدي الأكبر الذي يواجه الثورات العربية الناجحة، فهي مطالبة أولاً بأن توافق على انتخابات حرة ونزيهة، وأن يكون ذلك من أهم مطالبها، وأن ترشح لانتخاباتها المقبلة خيرة شبابها الذين يتفهمون التعامل مع الداخل والخارج معاً، وليس الاستجابة لمطالب الداخل والاختلاف مع الخارج، لأن ذلك سيخلق دولة مأزومة ومتوترة في العلاقات الدولية، وسيكون ذلك سبب متاعب داخلية كبرى، قد لا تقوى على الصمود، وفي المقابل لا يستطيع الخضوع للمطالب الخارجية وعدم التجاوب مع المطالب الداخلية الشعبية والدينية بالعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة، لأن ذلك سينتج أنظمة مثل التي سقطت مرتهنة للقرار الخارجي مهما كان معارضاً لقيم الداخل ومشاعره، وبالتالي لن يكون الاستقرار الداخلي، وسيضطر الشعب إلى الثورة مرة ثانية وثالثة، وهذا لا يخدم الاستقرار الداخلي ولا السلام الخارجي. إن المرحلة المقبلة تتطلب رجالاً حكماء، وسياسيين أتقياء يتفاعلون مع كل قضية شائكة بهدوء وحكمة وعقلانية وقناعة. ومثال ذلك قضية الدولة الدينية، فالمخاوف التي تثار على الدولة الدينية غير حقيقية إطلاقاً، بداية لأن الدولة الدينية ليست مطلب الإسلام نفسه، ولم يعرف المسلمون في التاريخ ولا الحاضر دولة تدعي أنها دولة دينية، وإنما كانت هي دولة شعبها وحدودها الجغرافية في الماضي والحاضر، فالدولة الأولى التي أقامها العرب في المدينةالمنورة في العهد النبوي - وهي وحدها المعيار العملي - لم توصف بأنها دولة دينية، وإنما وصفت بأنها سلطة الالتزام بميثاق المدينةالمنورة، الذي فيه حقوق وواجبات كل سكان المدينة، من المسلمين واليهود وغيرهم، فسكان المدينةالمنورة لم يجبروا على التزام عقيدة دينية واحدة، ولا شريعة دينية واحدة، وإنما تعاهدوا على الالتزام بوثيقة تحدد الحقوق والواجبات على كل سكان المدينةالمنورة، وهذا بدوره هو مفهوم الدولة المدنية، وهو التزام كل المواطنين الذين يقطنون في جغرافية واحدة بميثاق وصحيفة يشعر الجميع بأنها تحفظ لهم حقوقهم، ولا تطالب فئة منهم بواجبات إلا كما تطالب غيرها من أهل تلك الصحيفة، فصحيفة المدينة ليست صحيفة نظرية فقط، وإنما هي دستور عملي طبّقه المسلمون واليهود في المدينةالمنورة، من دون تمييز عنصري أو قانوني لهذه الطائفة أو تلك، وإنما الحق والبر على من اتقى. وهكذا ينبغي تناول كل القضايا بالشرح والتوضيح وإزالة اللبس، فالمستقبل هو صناعة الأحياء من الناس، وسكان الدول العربية بحكم تدينهم بالإسلام يؤمنون بعقيدة وشريعة معاً، وهذه الشريعة لم يعرف عنها ظلمها لغير المسلمين، كما عرف عن غير الشريعة الإسلامية عبر التاريخ، بل ما عرف عنها عدلها بغير المسلمين وإنصافها لهم، أي أن المخاوف الوهمية هي من جهة الغرب ومن يربط نفسه بتصوراته ومقاصده من المسلمين وغير المسلمين، ولذا فلا ضير من قيام دول عربية حديثة تصوغ دستورها من خلال مجالسها الشعبية المنتخبة، وهي قابلة للتغيير والتطوير مع الزمن بحكم متطلبات كل مرحلة، على أن يكون هدفها المعلن هو العدل والعدالة.