يمر «الربيع العربي» في انتكاسة تجعل منه خريفاً في الوقت الحاضر انما هذا لا يعني بالضرورة ان الشتاء سيعصف باليقظة العربية ليقضي عليها قبل الاحتفال بمرور سنة على بزوغ الربيع العربي. المخاوف في ظل ما يحدث في كل من ليبيا ومصر وتونس مخاوف مشروعة سيما ان التيارات الإسلامية تحاول بشطارة ودهاء مصادرة ثورة التغيير الشبابية والطموحات بدساتير مدنية تفصل الدين عن الدولة. لكن تيارات الحداثة والاستنارة في كل من مصر وتونس – وحتى في ليبيا الى درجة أقل لا تتقوقع في تراجع على رغم محاولات التيارات الإسلامية تضخيم حجمها بنفسها وقطع الطريق على إعطاء الآخرين فرص التنظيم والتأطير في أحزاب قادرة على منافستها. نساء تونس وشبابها لن يقبلوا بحكم في تونس يسلب التوانسة حرية الرأي والخيار ويصادر ما قدمه الرئيس السابق الحبيب بورقيبة للمرأة من حقوق وقوانين تحميها. الليبراليون في مصر لا يخضعون تلقائياً لمساعي أحزاب التيارات الإسلامية مصادرة عملية صوغ الدستور الجديد والاستفراد بها. فالتيارات الليبرالية المصرية تتحدى رفض التيارات الإسلامية مناقشة عملية صوغ الدستور الجديد ومعايير اختيار لجنة صوغه. الحركات الليبرالية تدعو الى وثيقة حاكمة لواضعي الدستور الجديد حفاظاً على مدنية الدولة. معركتها صعبة في ظل حذاقة وخبرة الأحزاب الإسلامية التي تريد الإسراع الى انتخابات برلمانية ترجّح فوز «الإخوان المسلمين» وتمكنهم من الاستئثار بوضع الدستور الجديد إذا شاؤوا. انما هذه التيارات المدنية ماضية في المعركة انطلاقاً من رأي قانوني بأنه ليس من حق أي تيار سياسي أن ينفرد بصوغ الدستور حتى ولو حصل على الغالبية في البرلمان سيما ان الثورة في مصر قامت من أجل الحرية والمدنية والديموقراطية. أما في ليبيا، فهناك خيبة الأمل بطبيعة بعض الثوار الذين تصرفوا بهمجية مذهلة. هذه المجموعات تتصرف وكأنها بمفردها حرّرت ليبيا من حكم القذافي متناسية انه لولا حلف شمال الأطلسي (ناتو) وغاراته لما زال هؤلاء الثوار قابعين في الخوف وطأطأة الرأس أمام بطش القذافي. ليبيا تشكل تجربة مُرّة سيما ان دول (الناتو) تكاد تكون صامتة أمام التجاوزات الخطيرة للقانون الدولي التي تقوم بها زمرة من الثوار في الوقت الذي زعمت هذه الدول انها حامي حقوق الإنسان أينما كان. انها صامتة إزاء خطف رئيس المجلس الانتقالي لهوية الثورة بقرار انفرادي ومن دون سلطة شرعية أو توكيل شعبي، معلناً في ذلك اليوم التاريخي ان الحكم في ليبيا الجديدة سيكون مبنياً على الشريعة. هكذا صفع عبدالجليل نساء وشباب ليبيا ليسلب منهم حق الاختيار ويفرض عليهم هوية يهواها هو ومن حوله. هكذا أعاد عبدالجليل الى الأذهان املاءات القذافي وسط هيجان النقمة وتسلط شريعة الغاب. فكان ذلك يوماً بائساً في حياة ليبيا الجديدة تباهى فيه مَن نكث بالجثث، ومَن أخذ بيديه سلطة لا يملكها، ومَن حمل السلاح لحماية عشيرة أو قبيلة، ومن تلقّى المال والسلاح ليعلن اعتزامه تحويل ليبيا الى جمهورية إسلامية. ولكن، كما في تونس ومصر، هناك داخل وخارج ليبيا نساء ورجال لن يصمتوا على مصادرة ثورتهم ولن يرضخوا لإملاءات هنا أو لزمرة مسلحين هناك. وسواء كان عنوان العلاقة بين الإسلاميين والحداثيين معركة أو حواراً، فإن فرز هذه العلاقة يتطلب مشاركة واسعة من التيارات غير الإسلامية وكثيراً من الدعم لها والتنسيق. فالأحزاب الإسلامية لها خبرة في التنظيم والعمل السياسي لأنها كانت وحدها تقريباً في ساحة المعارضة للأنظمة السابقة. لهذا، من الطبيعي ان تسفر الانتخابات عن فوز الأحزاب الإسلامية سيما ان التيارات الأخرى لا يتسنى لها الوقت الكافي للتنظيم في أحزاب كما انها لا تتمتع بالدعم المالي الضروري لخوض مثل هذه المعارك. هذا فيما تتلقى الأحزاب الإسلامية الدعم المالي ليس فقط من أفراد يؤمنون بها وانما من حكومات في المنطقة قررت دعم التيارات الإسلامية المتطرفة والمعتدلة بالمال وأحياناً بالسلاح. أهم عنصر في مسيرة التغيير في المنطقة العربية يكمن في الدساتير ولذلك تريد الأحزاب الإسلامية الإسراع الى انتخابات برلمانية تفوز بها تؤدي الى امتلاكها مفاتيح دستور البلاد. مزاعم الدول الغربية انها تحترم المسيرة الديموقراطية ولا تتدخل في القرار الداخلي في ليبيا، مثلاً، تكاد تكون مضحكة. فرنسا، كمثال، تصرفت وكأنها تقود حلف شمال الأطلسي الذي قام بغارات مكثفة في ليبيا ساهمت في إسقاط معمر القذافي وكانت في طليعة المتباهين بتحقيق هذا الإنجاز. انها اليوم تتصرف وكأنها تخشى أن تثير غضب الحكم الجديد في ليبيا لعلّه يعاقبها بدلاً من مكافأتها بالعقود النفطية وغيرها. انها جاهزة لغض النظر عن التجاوزات الخطيرة لحقوق الإنسان والقوانين الدولية. انها صامتة عندما يختطف أحد قادة المجلس الانتقالي الليبي سلطة القرار ليفرض رأياً وتوجهاً لم يستشر الشعب الليبي رأيه فيه. وفرنسا ليست وحدها بل ان إدارة باراك أوباما التي حشدت الناتو في ليبيا تسلك نفس المسار. واجب الأممالمتحدة أن يكون لها دور كبير وموسع في ليبيا. فمجلس الأمن أعطي صلاحية التدخل الدولي في ليبيا تحت عنوان «المسؤولية الجماعية في توفير الحماية» للمدنيين. قرارات مجلس الأمن التي اتخذ منها حلف شمال الأطلسي القاعدة القانونية لتدخله العسكري وقيامه بغارات القصف انتهت الأسبوع الماضي بموجب قرار آخر لمجلس الأمن. ثم ان المجلس تبنى أيضاً قراراً أعطى الأمانة العامة صلاحية إيفاد مسؤول رفيع المستوى هو ايان مارتن لمساعدة ليبيا في مراحلها الانتقالية. واجب الأممالمتحدة أن تطالب جدياً الحكم الجديد في ليبيا باحترام حقوق الإنسان والقوانين الدولية كي لا يسيطر الانتقام وشريعة الغاب. واجب الأممالمتحدة أن تضع برنامجاً ذكياً وخلاّقاً لمساعدة ليبيا على التخلص من ذلك السلاح الذي سيفتك بالناس وقد يؤدي الى تقسيم ليبيا وعودة العشائرية والقبلية وربما التشجيع على الهمجية. عندئذ تصبح حكاية ليبيا أقرب الى أسطورة حاكت الديموقراطية فقط في الخيال. واجب الأممالمتحدة يشمل المطالبة بأُطر وقوانين تضمن عدم تجاوز أقطاب الحكم الجديد صلاحياتهم اما لتوزيع العقود أو للاستفادة الشخصية باقتطاع نسبة كفاءة لهذه العقود لجيوبهم. فليبيا مقبلة على مرحلة صعبة قد تسحق كل ما حققته في الربيع العربي وتمحو معه صورة الليبي الجميل الذي فاجأ العالم لتحل محلها صورة الليبي الذي يتحدث فقط بلغة السلاح والمصلحة الشخصية والإملاء والانتقام. واجب الأسرة الدولية سيما الغربية ان تواكب التغيير الليبي الى النجاح بدلاً من رمي التجربة الليبية في سلة الفشل الذريع. أما في مصر، فإن الحاجة ماسة لدعم التيارات الحداثية الليبرالية في مجالات عدة، بما فيها تمكينها عملياً من إنشاء الأحزاب والتأكد من إعطائها الفرصة لإثبات الذات. فلقد كان من الأفضل لمصر إجراء انتخابات رئاسية لمرحلة انتقالية تتمكن أثناءها جميع التيارات من تنظيم نفسها في أحزاب. لكن التيارات الإسلامية كسبت تلك المعركة وفرضت كأمر واقع إجراء انتخابات برلمانية أولاً. المجلس العسكري في مصر يتأرجح بين إرضاء الإسلاميين وبين تفهّم الليبراليين من حين الى آخر. انه ضعيف بنيويّاً وهو يشكل شبه عبء يُثقل الليبراليين بسبب تعثره وفشله في البناء على ثورة التغيير. الولاياتالمتحدة تبيع المصريين والتونسيين الكلام المعسول وتكاد لا تقدم أي دعم للتجربة الديموقراطية باستثناء مواقف غريبة لبعض أركان إدارة أوباما تتسم بالأكاديمية وبكثير من الجهل، فما تحتاجه مصر ليس تقبّل أو تفهّم أمر بديهي وهو ان من حق الأحزاب الإسلامية المشاركة في الحكم ومن طبيعة العملية الديموقراطية احترام نتيجة الانتخابات. هذا بديهي ومن الغباء تكراره. فالمسألة أعمق وأوسع وتتعلق أولاً بضرورة إعطاء المرحلة الانتقالية مساحة زمنية لتستطيع القوى غير الإسلامية تنظيم نفسها لتتمكن من دخول حلبة المنافسة في انتخابات. ثانياً، مد الدعم العملي والمالي للمؤسسات المدنية ليكون ذلك بمثابة تصحيح للموازين المختلة لصالح الأحزاب الإسلامية. ثالثاً، الكف عن التحدث حصراً بلغة حق «الإسلام المعتدل» بتولي السلطة وكأن ذلك هو الإفراز الطبيعي الوحيد لثورة الشباب العربي. رابعاً، دعم التوجه الليبرالي الحداثي عملياً بمواقف واضحة بدلاً من الظهور وكأن إدارة أوباما تدعم فقط الإسلام المعتدل على الأساس الذي سوّق نفسه لديها – أي بصفته البديل عن الإسلام المتطرف والرادع ضده. ما لم تستيقظ إدارة أوباما الى الأخطار التي تحدق بالربيع العربي – بالذات نتيجة أخطائها – فإنها تغامر بتطرف في المنطقة لن تتمكن من حماية نفسها من عواقبه. انها تغرق نفسها في مياه عكرة بمضيها في هذا الاتجاه. والأسوأ ان إدارة أوباما تتبنى سياسة الخضوع لإملاءات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو والتي لا تشتري لها سوى الغضب والنقمة والانتقام. فحذار ان تعتقد إدارة أوباما ان غزلها مع «الإسلام المعتدل» سيضمن لها الأمان. حذار ان تفترض ان حاجة الأحزاب الإسلامية لها ستحميها من المحاسبة اذا استمرت في توفير غطاء الحماية من المحاسبة لإسرائيل. انها تغامر ليس فقط باليقظة العربية التي حملت الاعتدال في بطنها قبل نحره. تغامر بالمستقبل الأميركي في المنطقة العربية.