كأن الإنترنت وُلِدَت أمس! ولأن ولادتها الميمونة كانت في بلد بعيد جداً (بمقاييس عصور ما قبل الإنترنت)، يحتاج الأمر الى مسافر يأتينا من بلاد "العم سام" كي يخبرنا بأوصاف هذا المولود الغرائبي. مع كل الإعتذار، ترسم الكلمات السابقة بعضاً من الانطباعات التي قد يولّدها القرار الأخير ل"المجلس الوطني للإعلام" في لبنان أنه قرر فتح سِجل "للعلم والخبر" عن المواقع الإلكترونية في لبنان. (* اقرأ خبر القرار إدناه) تكاد الأمور تنطق عن ذاتها، وتكاد الكلمات تحكي بنفسها على مدى الغرابة في القرار وكلماته. هل من المستطاع طرح سؤال عن المواقع الإلكترونية الإعلامية "في" أي بلد يتصل أهله مع شبكة الإنترنت؟ إذا فتح طالب في المرحلة الإبتدائية أو الإعدادية كومبيوتر متّصل مع الإنترنت، كم موقع إعلامي إلكتروني يكون "في" حاسوبه؟ ألف؟ مئة ألف؟ مليون؟ من يدري؟ إذا كان لبنانياً، يستطيع هذا الطالب الذي لم يبلغ سن المراهقة، أن يجد "في" حاسوبه موقعاً إعلامياً ناطقاً بلسان "الحزب الشيوعي الصيني". فهل عليه أن يهرع الى السفارة الصينية ويبلغها بأن عليها أن تهرع هي أيضاً إلى "المجلس الوطني للإعلام" كي تتقدم ب"بلاغ علم وخبر" عن الموقع الإعلامي الإلكتروني للحزب الشيوعي الصيني، لأن صورته الإلكترونية أصبحت "في" لبنان؟ ينطبق السؤال نفسه عن حزب بوتين في روسيا ومؤسساته، التي لا تتورع عن التحوّل مواقع إعلامية إلكترونية "في" حواسيب جمهور الإنترنت "في" لبنان. ولن نتحدث عن البيت الأبيض والبنتاغون والكونغرس والمؤسسات الإعلامية الأميركية التي لا تحصى، وهي مكتوبة بالعربية، وموجودة بصفة دائمة في حواسيب جمهور الإنترنت "في" لبنان. وُضِعَ حرف الجر "في" ضمن علامتي اقتباس، للإشارة الى عدم جدوى القرار، وهو أمر بديهي في شبكة الإنترنت التي انتشرت وصارت شيئاً يومياً منذ أكثر عقدين، أما ولادتها، فتسبق هذا الإنتشار اليومي بزمن لا يقل عن ذلك! هل يثور غضب "المجلس الوطني للإعلام" إذا قيل أن مصطلح "الفضاء الافتراضي" (يُسمى أيضاً "الفضاء السبرنتيكي" أو "السبرنتي"، بحسب ترجمات متنوّعة)، صار شيئاً تتعالكه الأفواه يومياً منذ عقود، والكتب والمقالات حوله تكاد تصل إلى حجم الهرم الأكبر أو تفوقه، إذا طُبعت المواد الإلكترونية في أوراق. على رغم ذلك، أصر المجلس على أن يتجاهل كلياً الفضاء الإفتراضي الذي تتواجد "في" ثناياه المواقع الإلكترونية المقصودة بقرار هذا المجلس. ثم ماذا يعني "علم وخبر"؟ من يُعلم من وبماذا عندما يُطلق موقعاً إعلامياً إلكترونياً "في" لبنان؟ إذا قرّر شاب لبناني أن يطلق "بلوغْ" (مُدوّنة إلكترونية)، يتحدث فيها عن أوضاعه وأحوال من حوله وما يجري في بلده وحولها، وهي أمور في صلب السياسة، فإلى من يرسل ال"علم وخبر"؟ ولماذا؟ ماذا لو أنه اكتفى بأن أخبر أصحابه بواسطة رسائل الخليوي وصفحته على "فايسبوك"، بأنه يعبّر عن آرائه السياسية والاقتصادية والثقافية على مُدوّنة إلكترونية تُمنح له مجاناً ومباشرة، في موقع مثل بلوغ سبوت.كوم" blogspot.com على محرك "غوغل"؟ هل يُعتقل لأنه خالف قرار "المجلس الوطني للإعلام" عن المواقع الإلكترونية "في" لبنان، ولم يعطِ "علم وخبر" لهذا المجلس؟ في الذاكرة أن الجمعيات الخيرية تحتاج الى "علم وخبر"، لأنها تعمل في حيز جغرافي تنطبق عليه سيادة الدولة، وقد تعمد إلى التموضع في مكان مُحدّد ضمن الجغرافيا السيادية للدولة. وينطبق الوصف عينه على النقابات والتظاهرات والجمعيات المتنوّعة ومؤسسات العمل الإجتماعي وغيرها. وتضرب هذه الممارسة من إعطاء "علم وخبر" إلى جهة رسمية، جذورها في أزمنة تعود الى ما قبل الإنترنت، بل أن بعضها يسبق زمن السيارة أيضاً. لماذا اختار "المجلس الوطني للإعلام" هذه اللغة العتيقة والمتأكلة والتي لا تنطبق على بديهيات "الفضاء الإفتراضي" في قراره الغرائبي هذا؟ حتى الراديو والتلفزة تستخدم موجات تتقاطع مع المدى السيادي للدولة، وهو ما لا ينطبق على الفضاء الإفتراضي لشبكة الإنترنت. أخيراً، جاء هذا القرار فيما الشعوب العربية تتحرك نحو مزيد من الحرية على الفضاء الافتراضي، الذي بات محل تقاطعات لسطوات يطول شرحها. وجرت العادة على أن يكون لبنان سبّاقاً في الحريّة ومشاكلها. وفي الذاكرة، الجملة الشهيرة التي أجاب بها وزير الخارجية السابق فيليب تقلا على وزير عربي احتجّ على انتقاد الصحافة اللبنانية لبلده حينها، والكلام بعيد انعقاد الدورة الأولى للجامعة العربية في زمن عبد الرحمن عزام باشا. إذ اكتفى تقلا بأن قال لذلك الوزير: "أُرحّب بإنتقاد صحافة بلدكم لشؤون لبنان". النكتة المرّة هي أن هذا البلد لم يكن قد امتلك صحافة، في ما كان لبنان لديه صحافة تتمتع بمقدار لا بأس به من الحرية. لماذا يريد "المجلس الوطني للإعلام" أن يعود بلبنان الى زمن ما قبل أربعينات القرن الماضي، في مسألة الحرية الإعلامية؟ مجرد سؤال. ___________ * المجلس الوطني للإعلام قرّر فتح علم وخبر للمواقع الإلكترونية! قرر المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع فتح سجل بالمواقع الإلكترونية، وذلك خلال جلسة عقدها المجلس، في مقره، برئاسة رئيسه عبد الهادي محفوظ، وناقش فيها مضمون التقرير عن الحلقات التلفزيونية الترفيهية والإجتماعية والسياسية التي تلقى بشأنها مراجعات من هيئات أهلية وثقافية ومن منظمات المجتمع المدني المختلفة وعدد من المرجعيات. واستند المجلس في قراره الخاص بالمواقع الإلكترونية الى التعريفات الواردة في قانون الإعلام المرئي والمسموع 382/94 فتح سجل لديه للعلم والخبر الخاص بالمواقع الإلكترونية، مضيفاً أنه سيعلن لاحقاً لائحة المستندات المطلوب إرفاقها بطلبات العلم والخبر الموجهة الى المجلس عملاً بالقانون الى حين صدور قانون خاص بالإعلام الإلكتروني.