حصد محمد عباد أندلسي في وقت متقارب ثلاث جوائز عالمية مهمة، آخرها جائزة «وايز» للابتكار في مجال التعليم عن مشروعه «الشراكة بين القطاع الخاص والمؤسسات التعليمية». وهو كان نال في تشرين الاول (أكتوبر) 2010 جائزة المنتدى العالمي الاقتصادي كفاعل اجتماعي للسنة في منطقة شمال افريقيا والشرق الأوسط (Social Entrepreneur of the Year). وفي أيلول (سبتمبر) 2011 نال جائزة كلينتون العالمية للمواطنة (Clinton Global Citizenship)، التي أطلقها الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون، الذي وصف مشروع أندلسي بأنه «تجربة يمكن أن تكون نموذجاً يحتذى به في العالم العربي، وحتى في الولاياتالمتحدة». وأندلسي عضو في منظمتي أشوكا وسينيرغوس (Achoka, Synergos)، وهما من أرقى المنظمات الدولية للمبدعين الاجتماعيين في العالم تضمان أعضاء من حاملي جوائز نوبل. أندلسي، وهو مدير مصرف سابق، رجل عملي ومثابر، يحمل تصوراً واضحاً للحلول الكفيلة برفع جودة التعليم وأدائه، ويسير بثبات نحو أهدافه، ويؤمن بأن المدرسة الناجحة يجب أن تعتمد أسلوب ورؤية تسيير الشركات. «الحياة» التقت أندلسي في ميدنته الرباط، وأجرت معه هذا اللقاء حول جائزة «وايز» وفوزه بها. ماذا يعني لكم الفوز بجائزة «وايز»؟ - أنا سعيد جداً بهذه الجائزة وفخور لحصولي على اعتراف عربي في إطار قمة عالمية. إنه أكبر تقدير بالنسبة إلي، فهذه المرة الأولى التي تقدم لي فيها جائزة من منظمة عربية، وهي المرة الأولى كذلك التي ينالها مواطن عربي. وإيماني راسخ بأن هذا الاعتراف سيساعدني على تعبئة المزيد من رجال الأعمال للانخراط في تجربة دعم المؤسسات التعليمية ورفع وتيرة إنجاز مشاريعنا القائمة وتذليل مصاعب بلوغ أهدافها، ودفع عملية ابتكار حلول إضافية لمعوقات التعليم. توج مساركم أخيراً في مجال العمل الأهلي بقطاع التعليم في شكل لافت على مستوى دولي واسع، ترى ما هي القيمة المضافة لمشروعكم المتوج؟ - القيمة المضافة في هذا المشروع هي ابتكار يعترف به الكل، يكمن في جانب محاولتي تحفيز رجال الأعمال على رعاية المؤسسات التعليمية، ليس فقط لكي يمولوا المشاريع، فهذا شيء سهل، ويمكن الحصول عليه، ولكن هناك ما هو أفضل من المال، وهو رفع المؤهلات ونقل التجارب. أنا أؤمن بأن المنظمات المدنية الناجحة يجب أن تحظى بإدارة مهنية، وهذا ما أحاول أن أحصل عليه من رجال الأعمال، لأن المشكل لدينا هو أن المدير عادة ما يكون أستاذاً سابقاً ترقى إلى منصب مدير ولا يملك كفاءة الإدارة. وعندما توجد أمامه فرصة لتسيير مؤسسته مع مهنيي الشركات، فإنه يرفع كفاءة أدائه ويستفيد من خبراتهم الإدارية، يتعلم كيف يهيئ طلب عروض مثلاً، وكيف ينتقي الشركات والخدمات المناسبة لحاجاته وإمكانات إدارته، إلخ. بالنسبة إلي، مدير مدرسة مثله مثل مدير شركة، يجب أن يمتلك كفاءات التسيير والادارة. ما هي أسس هذه الشراكة بين القطاع الخاص والمؤسسات التعليمية؟ - تجنيد رجال الأعمال لرعاية مؤسسات تعليمية في شكل مهني يقوم على أساسين: الأول احتضان المدارس والثاني زرع روح المقاولة عند الشباب. بدأت عام 1999 عبر جمعية «الجسر» للربط بين رجال الأعمال والمؤسسات التعليمية. أتصل برجال أعمال ليختاروا مؤسسة ابتدائية أو إعدادية أو ثانوية، ويعمل هؤلاء مع إدارة المؤسسة وممثل الأساتذة وممثل الآباء في إطار لجنة دعم تؤسس لهذا الغرض. ونعقد اتفاق شراكة ما بين الشركة المحتضنة وما بين إدارة المؤسسة وأكاديمية التعليم التابعة لها. مدة الاتفاق 3 أعوام قابلة للتجديد، وأهم شيء فيها دخول الشركة بتجربتها المهنية لتسيير المؤسسة التعليمية. لا أطلب منهم تمويل هذه المؤسسة أو تلك، ولكن أطلب منهم أن يشتغلوا مع المجموعة التعليمية لتحسين أداء المؤسسة، وهم في النهاية من يحدد مبلغ التمويل وتحديد طرق صرفه ويشرفون على إنفاقه بأنفسهم. دعيني أحكي لك قصة وقعت قبل خمس سنوات تقريباً. فقد أبدى وزير استعداده لاحتضان مؤسسة تعليمية، وبعث إلينا المدير المالي بشيك مالي. هل سمعت أبداً بمن يُعيد شيكاً لصاحبه؟ لقد أعدنا له الشيك شاكرين وقلنا له نحن بحاجة إلى الانخراط! وما هو شكل المساهمة غير المادية التي أنتم بحاجة إليها لرفع أداء المؤسسة التعليمية المحتضنة؟ - تدخل رجال الأعمال في التسيير يبدأ من تشخيص المشاكل أولاً ثم تحديد الحاجات لدى المؤسسة المحتضنة. تتمثل المشاكل في أسباب الرسوب والهدر المدرسي ومشاكل المتابعة لدى التلاميذ والبنية التحتية كوضعية المرافق الصحية والفصول، والنشاطات الموازية مثل الرياضة ودروس الدعم والتقوية والمكتبة. من الصادم أن نعرف أن أقل من 10 في المئة من المدارس تمتلك مكتبة على سبيل المثال لا الحصر. بعد هذه المرحلة، تضع لجنة الدعم، وهي بمثابة مجلس إداري للمؤسسة التعليمية، برنامج عمل سنوياً مبنياً على التشخيص، لكي تموله الشركة. وتلاحظين أنني أحرص على إدخال مصطلحات عالم الأعمال. على هذا الأساس لا نحدد نحن مبالغ الاحتضان، بل الشركة نفسها اذ تصبح على علم بكل صغيرة وكبيرة بالنسبة الى مآل أموالها وصرفها. ونطلب منها إنجاز جزء من برنامج العمل كل سنة والسهر على الإنجاز. ماذا تلاحظون بالنسبة الى الأوليات التي تقيمها الشركات المحتضنة في برامج أعمالها، السنة الأولى مثلاً؟ - عادة ما يبدأون بالمرافق الصحية، فهذه المرافق تكون سيئة الوضع أو غير كافية، في حين أنها حيوية لتحسين فضاء المؤسسة وتوفير ظروف حياة محترمة داخلها للتلاميذ والأطر العاملة فيها. هل تعيِِّن الشركة المحتضنة موظفين يتابعون سير العمل مع المؤسسة المحتضنة؟ - تتم اجتماعات دورية عدة لمتابعة تطور إنجاز المشروع. دعيني أشير هنا إلى أمر مهم جداً، ويدخل في التوعية بثقافة التطوع ونشرها بين الموظفين، إذ يقوم رجل الأعمال أو الشركة بالإعلان عن دعوة للمتطوعين لأجل اختيار من يمثلها لدى المؤسسة المحتضنة. كيف فكرت في هذا؟ وكيف أقنع أرباب الشركات بمسألة التطوع؟ قبل 20 عاماً، كنت في الولاياتالمتحدة الأميركية حيث زرت شركة ولاحظت أن لديهم بطاقات مهنية تحمل 5 مؤشرات لتقويم عمل الموظفين في آخر كل سنة لتحسين الوضعية والترقية وغيره. لفت انتباهي من بين المعايير الخمسة معيار الخدمة لمصلحة المجتمع community service، أي ماذا قدمت لمجتمعك؟ ومن يومها صرت كلما اتصلت بأحد رجال الأعمال أعرض عليه هذه الطريقة. في مرحلة لاحقة، أقنع ممثل الشركة لدى المدرسة باستقطاب زملاء له كمتطوعين يقدمون دروس التقوية للتلاميذ في مختلف المواد، وغير ذلك. وكيف تحصل على الاحتضان في نهاية المطاف؟ - بحكم تجربتي كمدير مصرف لأكثر من 30 عاماً، حاولت استثمار علاقاتي بالقطاع الخاص. أزور بانتظام الشركات الخاصة لإقناع أربابها. أنظم عمليات كبرى تجمع بين المؤسسات التعليمية والشركات من حين لآخر. نختار عدداً من المدارس، ما بين 50 إلى 100 مؤسسة تعليمية بشراكة مع أكاديمية التعليم في المنطقة، ونجهز فضاء للعرض نوفر فيه أجنحة صغيرة لكل مؤسسة، ونطلب من إدارتها وأطرها تحضير الجناح وتقديم تصور عن حاجات المؤسسة ومشاريعها التي لا تستطيع إنجازها. ثم نستدعي رجال الأعمال لزيارة المعرض ضمن اتفاقية مع الاتحاد العام لمقاولات المغرب CGEM (جمعية تمثل رجال الأعمال في المغرب من كل القطاعات، وتعد مخاطباً رئيسياً ووازناً للسلطات العمومية والفاعلين الاجتماعيين)، بغرض احتضانهم للمؤسسة التي يقع عليها اختيارهم وفق الانطباع الذي يخلفه اطلاعهم المباشر على الأجنحة عندهم وحديثهم إلى المشرفين عليها. هل تقومون بهذه الحملة في شكل منتظم خلال السنة؟ - هذا أمر صعب. عمليات كهذه تحتاج الى جهود ضخمة وتعبئة كبرى، لذلك لا يمكن أن ننظمها بوتيرة سنوية. ولكننا نراهن عليها كثيراً، لأنها تفيدنا في توفير الوقت لإقناع الشركات، فعادة يحتاج الأمر لإقناعها الى مثابرة وتواصل غير منقطع على مدى أشهر، كي نصل إلى مرحلة التوقيع على اتفاقية معها. لكن بفضل هذه اللقاءات ننجح في استقطاب عشرات الشركات وتجنيدها. والنتائج؟ - 300 مؤسسة تعليمية محتضنة، بخاصة في مدن الدارالبيضاءوالرباط ووجدة، في المجالين القروي والحضري، وننوي فتح فروع لجمعية الجسر في مدن أخرى. هذه المحصلة ليست سهلة المنال، لذلك أقول إن المبدع الاجتماعي هو شخص متحمس لديه ولع وإيمان بما يقوم به. اسمحي لي أن أحكي لك مثالاً عن هذه الحماسة (passion). قمنا السنة الماضية بمشروع مهم في إطار جمعية الجسر. معلوم أن عملية التخلص من الأجهزة المستعملة عملية مكلفة ومشكل بحد ذاته يجب على الشركات تدبيره. لدينا مشروع لجمع 200 ألف حاسوب مستعمل من شركات كانت تجدد أجهزتها. وكان علينا أن نقتني عربة تنقل تلك الحواسيب. توجهت إلى شركة معروفة قصد اقتنائها، وبما أنني شخص متحمس، انطلقت في الحديث مع المدير العام عن الجمعية وما نقوم به، وكنت أطمح للحصول على تخفيض في السعر، لكن الرجل فاجأني لما طلب مني مرافقته إلى صالة العرض قائلاً: اختر واحدة، فهي للجمعية بالمجان! أقول هذا لأؤكد أن الحماسة وحب العمل الذي يقوم به المرء يجعلان كل شيء ممكناً، وإذا كان المرء متحمساً ومعدياً أيضاً، فهذا بالطبع أفضل ما يمكن أن يحصل. بعد نقل تلك الحواسيب، نظمنا ورشة إصلاح لمنحها للمؤسسات التعليمية. وفككنا المعطلة منها لإعادة تدويرها، مستفيدين من اتفاقية تجمعنا بشركة كبرى في المغرب مختصة بتدبير النفايات. حصلنا على منحة مالية بقيمة 600 ألف يورو من مؤسسة Drosos السويسرية غير الحكومية التي تعنى بالتعليم والصحة والبيئة في الدول النامية. بفضل كل هذا، وضعنا نوعاً مما يسمى بالتضامن الرقمي Digital solidarity، أي تجهيز المدارس بالحواسيب، وحفظ البيئة، وتدريب 40 شاباً من مستوى الثانوي المنقطعين عن الدراسة لإصلاح الحواسيب، وتمت مرافقتهم في التدريب النظري والتطبيقي (نحو 30 ألف جهاز) مدة سنة حصلوا في نهايتها على شهادة معترف بها من لدن الدولة، ورافقناهم ضمن اتفاقية شراكة مع وزارتي التعليم والتشغيل إلى أن وجد جميعهم فرصة عمل. قلتم إن احتضان مؤسسة تعليمية يتم أولاً بإقناع رجال الأعمال بجدوى أن يكونوا طرفاً حيوياً في عملية الاحتضان، فما هو الأمر الثاني؟ - هو زرع روح المبادرة. في عام 2007، أنجزت تقويماً لأداء رجال الأعمال في المؤسسات التعليمية المحتضنة. النتيجة كانت أنهم قاموا باستثمارات مهمة جداً في الإصلاحات، ولكن لم يقوموا بنقل تجربتهم، في حين أن هدفنا هو الرفع من جودة التعليم. إصلاح البنية التحتية وغيره مفيد ومهم، ولكن لا علاقة مباشرة له مع هدف الجودة. وهذا ما دفعني لإنشاء جمعية أخرى «إنجاز المغرب» لزرع روح المبادرة. وشاءت الصدف أن نتعرف الى تجربة عالمية ناجحة في هذا المجال ظهرت عام 1919 في الولاياتالمتحدة الأميركية تدعى Junior Achievement، وانتشرت حالياً في 120 دولة. تملك هذه الجمعية برامج لتدريب التلاميذ على انشاء وتسيير الشركات والبنوك وتأهيل المهارات الحياتية. تمتاز برامجها بشيئين: التعلم يتم في شكل تطبيقي learning by doing والتدريب يتم على أيدي متطوعين من القطاع الخاص. معناه أن التلاميذ يقيمون شركات فعلية؟ - تماماً. يقيم التلاميذ شركات غير وهمية لمدة سنة كاملة، وفي نهاية العام الدراسي تحل تلك الشركات، بإشراف المدربين المهنيين القادمين من عالم تسيير الشركات، يسيرون شركاتهم انطلاقاً من اختيار المنتج أو الخدمة، ودراسة السوق، وبيع الأسهم، وتأسيس المجلس الإداري، وشراء المواد الأولية والصنع والبيع والتوزيع. طبعاً هذه استثمارات بسيطة لا تصرف فيها مبالغ ذات أهمية. وقد أظهرت دراسات أن 30 في المئة من المستفيدين من هذا التدريب يؤسسون شركاتهم لدى بلوغهم سن ال 25. وهل أكدت جمعية «إنجاز المغرب» نجاح هذه التجربة العالمية؟ - نعم، ضمن جمعية «إنجاز المغرب» هناك 60 شركة تساهم مادياً كما تساهم بتدريب الشباب. برنامجنا للسنة الجارية يستفيد منه 8900 شاب، وهدفنا تكوين 100 ألف شاب بحلول عام 2015. مشروع جمعية «إنجاز المغرب» جاء لاستكمال وتعزيز تجربة جمعية «الجسر» الفائزة بجائزة «وايز». ف «الجسر» هي فكرتي المبتكرة، ومساهمتي تتمثل في تطوير «إنجاز المغرب» العضو في مبادرة Junior Achievement كتجربة معترف بها دولياً، وإعداد الأرضية لنجاحها بواسطة تجربة «الجسر»، فقد كانت الشركات مهيأة لإنجاح هذه التجربة. لأجل كل هذه الأعمال والمبادرات لخلق شراكة فعالة بين رجال الأعمال والمؤسسات التعليمية حصلت على جائزة «وايز».