احتلت الأحزاب الوسطية الصدارة في تشكيلة الجمعية التأسيسية التي ستضع دستوراً جديداً لتونس، طبقاً للنتائج النهائية التي أعلنتها «الهيئة العليا المستقلة للانتخابات». ومن المقرر طبقاً لإعلان سياسي وقّعه ممثلو أحد عشر حزباً سياسياً أن تدعو الجمعية التأسيسية لانتخابات برلمانية ورئاسية في غضون سنة. وأتت الهيئة العليا، التي حلت محل وزارة الداخلية لإدارة العملية الانتخابية، استجابة لطلب من الأحزاب المتنافسة. وبموجب النتائج التي أعلنها رئيسها كمال الجندوبي فازت الأحزاب الوسطية بنحو 60 في المئة من مقاعد الجمعية التأسيسية وعددها 217 مقعداً، وأبرز هذه الأحزاب حزب المؤتمر من أجل الجمهورية (وسط) بزعامة منصف المرزوقي، والتكتل الديموقراطي من أجل العمل والحريات بزعامة مصطفى بن جعفر العضو في الاشتراكية الدولية، والحزب الديموقراطي التقدمي (يسار الوسط) بزعامة مية الجريبي، والقطب الديموقراطي الحداثي (يساري) بزعامة أحمد إبراهيم الأمين العام لحركة التجديد (الحزب الشيوعي سابقاً). وفاجأت النتائج التي حققتها حركة «النهضة» ذات التوجه الإسلامي بزعامة راشد الغنوشي، التي حازت 41 في المئة من المقاعد، المراقبين مثلما فاجأت الأحزاب المنافسة لها وأعضاء الحركة أنفسهم. في المقابل، تراجعت أحزاب كان يُتوقع أن تنال حصة من المقاعد أكبر من التي حصلت عليها، بخاصة «الديموقراطي التقدمي» الذي كانت استطلاعات الرأي تمنحه المركز الثاني بعد «النهضة». ويمكن القول إن الأحزاب والقوائم ذات الاتجاهات المتشددة في اليسار واليمين، مثل حزب العمال الشيوعي الماركسي اللينيني وحزبي البعث المحليين، خرجت صفر اليدين، إذ حصلت غالبيتها على مقعد واحد، مع العلم أن ثمانين حزبا قدمت مرشحين لانتخابات الجمعية التأسيسية. وأخفقت أيضاً غالبية القوائم المستقلة في الفوز بمقاعد، بما فيها تلك التي شكلها المحامي عبدالفتاح مورو الأمين العام السابق لحركة «النهضة» الذي ابتعد عن قيادة الحركة منذ تسعينات القرن الماضي. وإذا كانت «النهضة» فازت بتسعة مقاعد من الدوائر الخارجية التي تشتمل على 18 مقعداً، أي نصف المقاعد، فإن المشهد في الداخل كان أكثر تعقيداً، إذ دخلت على الخط أحزاب لم يكن أحد يتوقع أن تحصد ما حصدته من مقاعد. وفي مقدمها «العريضة الشعبية للحرية والإصلاح والتنمية» التي شكلها الإعلامي المقيم في لندن الهاشمي الحامدي، والتي حصدت أكثر من عشرين في المئة من الأصوات (قبل إسقاط مرشحيها في ست دوائر)، وإلى جانبها «حزب المبادرة» بزعامة كمال مرجان وزير الخارجية في عهد بن علي الذي حصل على خمسة مقاعد في منطقة الساحل، التي يتحدّر منها الرئيسان السابقان الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. وعلى رغم الضجة التي أثارها الاختراق الذي اجترحته «العريضة الشعبية» فإن تنوع المشهد يؤكد برأي مراقبين كثر تمسك التونسيين بالاعتدال وميلهم إلى الوسطية، كي لا يطغى حزب واحد مجدداً على الحياة السياسية. وقارن محللون بين النتائج التي حققتها «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» في أول انتخابات تعددية في الجزائر 1992 والتي وصلت إلى 75 في المئة من الأصوات، وبين ما حققته «النهضة» في تونس للتدليل على الذهنية الوسطية التي يتعامل بها التونسيون مع التيارات المتنافسة. ولعل الوعي بمدى رسوخ هذه الذهنية في المجتمع هو الذي حمل «النهضة» على إعلان اعتزامها تأليف حكومة وحدة وطنية لا تقتصر على عناصرها وأعضاء حزب «المؤتمر» المتحالف معها، وإنما قد تدعو إليها أيضاً «التكتل» و «القطب الديموقراطي». ويستبعد مراقبون أن تتجاوب مكونات «القطب» اليسارية مع تلك الدعوة، إلا أن قادة «التكتل» حرصوا خلال الحملة الانتخابية على عدم قطع شعرة معاوية مع «النهضة». عودة «التجمع»؟ واحتسب محللون فوز مرشحي «العريضة الشعبية للعدالة والحرية والتنمية» عودة ل «التجمع الدستوري الديموقراطي» المنحل في صيغة جديدة، وإن أعلن الحامدي أن أعضاءها انسحبوا من الجمعية التأسيسية. وكان الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي غيّر اسم الحزب الذي ورثه عن بورقيبة من «الحزب الاشتراكي الدستوري» إلى اسمه الحالي في مؤتمر استثنائي عقده في عام 1988، أي بعد عام واحد من وصوله إلى سدة الحكم. ويُعتقد أن مرشحي «العريضة»، وهم من الشخصيات غير المعروفة في عالم السياسة، اعتمدوا على الخلايا المحلية للحزب المنحل وعلى أموال رجال الأعمال المرتبطين به. ورأى مراقبون أن بصمة «التجمعيين» كانت واضحة تماماً من عناوين الحملة التي خاضتها قوائم «العريضة الشعبية» وحجم تمويلها والشعارات التي صنعت منها محوراً لبرامجها، وبذلك استطاع «التجمعيون» أن يُفاجئوا الجميع إذ لم يتوقع أحد أن يلجأوا إلى قوائم مستقلة، ويتخلوا عن الواجهات الحزبية، كي يحصدوا ما حصدوه من مقاعد. وأياً كانت تداعيات انسحاب لتأليف نواب «العريضة» من المجلس التأسيسي فإنه لن يُعطل المشاورات الجارية لتأليف الحكومة المقبلة وتحديد المهمات التي ستوكل إليها. وظهرت في هذا السياق ثلاثة مواقف، الأول هو إعلان حركة «النهضة» أنها تعتزم تأليف الحكومة الانتقالية المقبلة، والثاني تمثل بموقف من رأوا أن تلك الحكومة الانتقالية ينبغي أن تؤلف من التكنوقراطيين، أما الموقف الثالث فدعا بكل بساطة إلى التمديد لحكومة الباجي قائد السبسي باعتبارها نجحت حتى الآن في إدارة الشوط الأول من العملية الانتقالية. مشاورات في الجانب الأول، اتسم موقف «النهضة» بالاستعجال إذ لم تنتظر الكشف عن النتائج النهائية للاقتراع لكي تعلن نيتها تكليف أحد مسؤوليها تأليف الحكومة. وهذا موقف مخالف للإجراءات المتبعة عادة في هذه الأوضاع، إذ كان من المفروض انتظار معرفة النتائج النهائية ومصادقة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عليها، قبل أن يتسلمها رسمياً رئيس الجمهورية الموقت ويُكلف الحزب الأول الفائز تأليف حكومة. لكن «النهضة» اعتبرت تكليفها أمراً محسوماً لأنها «حصلت على الغالبية» وفق قول قادتها. وأيدها في ذلك رئيس «حزب المؤتمر» منصف المرزوقي، فيما أعلن الأمين العام للحركة حمادي الجبالي أنه مرشحها لرئاسة الحكومة الانتقالية. لا بل زاد على ذلك أنه باشر مشاورات في هذا الشأن مع أحزاب أخرى، وإذا صح هذا الخيار فستتكون الحكومة من «النهضة» و «المؤتمر»، وربما «التكتل» الذي يعارض كوادره على ما يبدو أية شراكة مع «النهضة»، وهم وضعوا فيتو على ترشيح مصطفى بن جعفر لمنصب الرئيس الموقت الذي أعلن هو نفسه من فرنسا أنه يسعى إليه. ويُتوقع في حالة الإصرار على قيام حكومة حزبية أن تقتصر على حزبين وتُغضب الأحزاب الأخرى، التي تطالب بألا يُجر أعضاء المجلس التأسيسي إلى صراعات حزبية مبكرة، من أجل التفرغ لمهمته الأساسية، المتمثلة بوضع الدستور والإعداد لانتخابات عامة تُفرز مؤسسات دائمة. ويستند خصوم «النهضة» في هذا الباب إلى توقيعها الإعلان الذي وقّعه 11 حزباً سياسياً بصفته خريطة طريق للمرحلة المقبلة، والذي ركز في الدرجة الأولى على مهمة وضع الدستور وحدد سقف ولاية الجمعية التأسيسية بسنة واحدة. أما الموقف الثاني فرأى المدافعون عنه أن المهمات العاجلة الآن تتعلق بمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بتنامي البطالة وتراجع الصادرات وكساد السياحة وتفاقم الدين الخارجي، ما يستوجب حلولاً عاجلة لا يفهمها سوى المختصين، وهم ليسوا في كل الأحوال القياديين في حركة «النهضة» أو في أي حزب سياسي آخر. ويرتدي هذا الموضوع أهمية أكبر مع تزايد أخطار اهتزاز الاستقرار الاجتماعي وحتى الفلتان الأمني بسبب تفاقم العجز في الموازنة واستفحال البطالة والفقر والتهميش. ومن هنا فالمسألة في صميم نجاح التجربة الديموقراطية، فإذا سيطرت ذهنية المغانم الحزبية السريعة فقد يتخذ المناخ السياسي منحى تجاذبياً وسجالياً ما يربك العملية السياسية. ويلتقي الخيار الثالث مع هذا الموقف الأخير في النتيجة وإن كانت المنطلقات مختلفة، إذ يستدل بالحصيلة الإيجابية التي حققتها الحكومة الانتقالية الحالية برئاسة قائد السبسي لكي يُرجح فكرة التمديد لها إلى أن يفرغ المجلس التأسيسي من كتابة الدستور، ويشرع في الإعداد لانتخابات برلمانية أو رئاسية بحسب النظام السياسي الذي سيرسو عليه الدستور الجديد. ويستند المدافعون عن هذا الخيار إلى أمرين أولهما الطابع الانتقالي، أي الموقت، للحكومة المقبلة، وثانياً حنكة قائد السبسي التي لا تتوافر لأي من المرشحين المحتملين لرئاسة الحكومة اليوم. ويرى هؤلاء أن المجلس التأسيسي يمكن أن يتخلص من أعباء الحكم والصراعات التي تترتب عليها بإلقائها على كاهل الوزير الأول الحالي بعدما استطاع تجنيب العملية السياسية الوقوع في مطبات عدة خلال الأشهر الماضية. وفي هذا السياق، يتردد أيضاً اسم الدكتور مصطفى كمال النابلي حاكم البنك المركزي لتكليفه تأليف حكومة من التكنوقراط. ويرمي هذا الخيار أيضاً، وفق المدافعين عنه، إلى تمكين المجلس التأسيسي من التفرغ لمهمته الرئيسة المتمثلة في وضع الدستور. ويُعتبر النابلي شخصية مستقلة تحظى بالاحترام، إضافة إلى كونه من أفضل الخبرات الاقتصادية التونسية في مرحلة يحتاج البلد إلى من له دراية بالملف التنموي. وكان النابلي غادر الحكومة في السنوات الأولى من عهد الرئيس بن علي لعدم موافقته على الخيارات التي اتبعها، وسرعان ما انضم إلى البنك الدولي الذي عهد إليه بالإدارة الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا طوال السنوات الماضية. طبعاً يجد هذا المنطق معارضين كثراً ليس فقط في «النهضة» وإنما أيضاً في «المؤتمر»، الذي تمسك قياديوه بتكليف السياسيين الفائزين تأليف الحكومة الانتقالية، ورفضوا أي تقييد لولاية التأسيسي بما قد يحوله من جمعية تأسيسية إلى برلمان يحكم من خلال الغالبية. إلا أن منطق الوسطية السائد بين التونسيين يُرجح كفة النابلي أو قائد السبسي لقيادة الشوط الثاني من المرحلة الانتقالية في انتظار إجراء انتخابات اشتراعية أو رئاسية تقيم مؤسسات الدولة الديموقراطية التي يختارها الناخبون بحرية. * أستاذ في جامعة تونس