تأتي رواية «أريد رجلاً» (دار الساقي) للكاتبة السعوديّة نور عبد المجيد من عالم قصصيّ رومانطيقيّ يعيد إلى الذاكرة العهد الذهبيّ للسينما المصريّة، حين كانت حكايات الأفلام تدور بين الصعيد والقاهرة والإسكندريّة، والبطلة (فاتن حمامة أو مريم فخر الدين أو شادية) تريد تحقيق وجودها في مجتمع ذكوريّ كثيرِ الرجال ولكن لا رجل يتّخذ مواقف شجاعة. من هنا كان عنوان الرواية الخبيث الذي يوحي مع لوحة الغلاف بصرخة امرأة تريد رجلاً للحبّ، فإذا بالرواية تأخذ القرّاء في رحلة البحث عن رجولة تقاوم الجهل والتقاليد البالية، وتنتصر للعلم والحريّة والمساواة. وما كانت نور عبد المجيد لترفع الستر عن الخلل في المجتمع «لو أنّ في هذي الجموع رجالا»، في صرخة تذكّر بصرخة ابنة «بزرجمهر»، في قصيدة شاعر القطرين خليل مطران، حين أعدمَ «كسرى» الفارسيّ والدَها الوزير بسبب نصيحة. ولكنّ «أمينة» بطلة هذه الرواية، وعلى الرغم من كلّ الحريّة التي أعطيت لها، لن تستطيع أن تصل إلى مستوى تلك الفتاة، لأنّها حوّلت المطالبة بحقوق المرأة من قضيّة عامّة إلى قضيّة غرام وانتقام، كما كانت الحال مع بدايات الرواية العربيّة وكأنّ الزمن توقّف بالكاتبة عند تلك المرحلة، ولذلك لم تنجح «عصرنة» القصّة (الجينز، المايكروويف، السيّارة، السينما، المرأة الموظّفة في المصرف، أسماء العطور الأجنبيّة...) في إقناعنا بأنّنا أمام رواية من القرن الحادي والعشرين، لا من حيث حرمان المرأة من حقوقها فحسب، بل من حيث المعالجة الروائيّة. «أمينة»، التي أمضت حياتها متعاطفة مع والدتها المجروحة من خيانة زوجها لها (والد أمينة)، تتعرّض هي الأخرى لخيانة زوجها الذي تزوّج عليها سرًّا وبضغط من والدته لينجب صبيًّا بعدما أنجبت له هي ابنتين. ويكون ردّ فعل «أمينة» الانتقاميّ طلب الطلاق بحجّة أنّ زوجها لا ينجب الذكور، وذلك بالاعتماد على الرأي العلميّ القائل إنّ الرجل وحده يتحمّل مسؤوليّة نوع الجنين، ولأنّها تريد رجلاً في حياتها، طلبت التحرّر من زوجها لتتزوّج آخر ينجب الصبيان. حول هاتين الشخصيّتين المحوّريتين، هناك امرأتان طاغيتا الحضور: والدة «أمينة» المتوفاة ومع ذلك نراها حاضرة بقوّة في حياة ابنتها التي أقامت بعد زواجها في منزل والديها، وبقيت تخاطب أمّها عبر دفتر يوميّاتها، فضلاً عن أنّها ورثت عنها العمل في القطاع المصرفيّ؛ المرأة الثانية هي والدة «سليم» زوج «أمينة» التي فقدت زوجها وهي حامل بابنها، فصبّت كلّ اهتمامها على مستقبل وحيدها وزواجه وإنجابه. الرجل المغيب هكذا بدا الرجل/ الوالد في حياة الزوجين «أمينة» و»سليم» مغيّبًا: الأوّل بسبب الخيانة فهمّشته زوجته، والثاني بسبب الموت فخلّدته الزوجة عبر الإبقاء على كلّ ما في البيت كما كان. كأنّ الموت (موت الرجل الحبيب) في نظر المرأة أفضل بما لا يقاس من خيانته لها وغدره بها. وبسبب ذلك يمكننا قراءة الرواية بعكس ما نفترض أنّ الكاتبة رمت إليه، أي يحقّ لنا أن نرى فيها تصويرًا لطغيان المرأة وتسلّطها لا لضعفها وحرمانها من حقوقها، ولو كان كلا الطغيان والتسلّط ردّي فعل في أكثر الأحيان. فبقدر ما تمثّل «أمينة» المرأة التي ظلمها المجتمع حين نظر إليها على أنّها وسيلة استمرار النسل، نرى في والدتها وحماتها المرأة التي تفرض ما تريد (الأولى على زوجها والثانية على ابنها) وتحصل عليه مهما كان الثمن. ولهذا انتهت الرواية بأن دفع الجميع أثمانًا باهظة لهذه المواقف المتطرّفة حين طلّق «سليم» زوجتيه بعدما صارت حكايته مادة إعلاميّة دسمة، تاركًا جيلاً جديدًا من الأولاد يتحمّل النتيجة: ابنتيه من «أمينة» والجنين الذكر من زوجته الثانية «لبنى». وقد نجحت الكاتبة في اختيار وظيفة القاضي للزوج الشابّ الذي لم يستطع أن يكون عادلاً في حياته الشخصيّة كما هو في حياته العمليّة، كأنّ «نور عبد المجيد» تريد التنبيه من أنّ ما يسمح به الشرع الإسلاميّ من حيث تعدّد الزوجات ليس سهلاً كما يحاول كثر الإيحاء به. ولعلّها لذلك اختارت مسرح روايتها طبقة اجتماعيّة ميسورة ومتعلّمة، لتقول: إذا كان الأثرياء والمتعلّمون يعجزون عن احترام حقوق المرأة وصون الأسرة فكيف بالمعوزين البسطاء؟ يؤخذ على الرواية، وإن تميّزت بشكل عامّ بسلاسة لغتها وانسيابها، أنّها لم تولِ الناحية الجماليّة الأدبيّة اهتمامًا كافيًا، فلا عبارة تترك أثرًا ولا صياغة تثير الدهشة، كأنّنا أمام قصّة مصوّرة اعتنت صاحبتها بالتقاط أدنى حركة يقوم بها الأبطال، وبمراقبة أدقّ تفصيل في الثياب وأثاث المنزل، علمًا أنّ الرواية العربيّة تخطّت ذلك منذ زمن لا يُسمح بالعودة إليه. حتّى التكرار الذي يمكنه أن يكون أداة تعبيريّة مفيدة وجميلة تحوّل في الرواية إلى مجرّد استعادة لا تشي بحالة نفسيّة ضاغطة بل بدوران النصّ في حلقة مفرغة لم تذهب عميقًا في التحليل النفسيّ العميق أو التصوير الاجتماعيّ الدقيق. ولم يعد يكفي كي يشعر القارئ بالحالة النفسيّة للشخصيّات أن تتلاحق التساؤلات وتتوالى أساليب الاستفهام والتعجّب وأن تمتلئ الصفحات بالنقاط الثلاث الدالة على عجز الكلمات عن الوصف: «لم تكن هالة طلبة يومًا بهذا الجنون.. لم تكن يومًا بهذا التهوّر..ما الذي حدث؟ ما الذي أصابها في هذا العمر؟ إنّها في الخامسة والخمسين من عمرها...كيف تتصرّف كما كانت تفعل وهي في العشرين؟ صبغت شعرها...لم يعد فيه شعرة بيضاء واحدة... اشترت أثوابًا ملوّنة جديدة وزهورًا بيضاء وضعتها في غرفتها... وها هي تقف لتطهو طعام العشاء الذي دعت إليه عزّت عبد الرحيم... إنّها تقاوم... تقاوم في جنون لكنّ جنونها أكبر من جنون مقاومتها... تقاوم وهي تغتسل... تقاوم وهي تتعطّر... تقاوم وهي ترتدي ثيابها وتخرج إلى لقائه.» (ص242) أمّا اختيار مصر مسرحًا لأحداث الرواية فيهدف على الأرجح إلى عدم التعرّض للمجتمع السعوديّ الذي تنتمي إليه الكاتبة. وهذا الاختيار من حقّها إن رأينا فيه محاولة لتخليص عملها الروائيّ من سوء فهم يضعه في خانة السيرة كما يحصل عادة مع الروائيّات العربيّات، أو لعدم تحويل العمل من قضيّة تحرير المرأة إلى تهمة التعرّض لمجتمع معيّن. ولكن من حقّ القارئ أن يتساءل في هذه الحال عن دور الرواية عمومًا، وهذه الرواية خصوصًا، في إحداث تغيير ولو بسيط ما دامت خاضعة لرقيب داخليّ (له شكل رجل) يعطّل الإبداع.