بدءاً من الصفحتين الأولى والثانية من رواية «حانة رقم 2» لليلى عيد (دار الآداب)، نلاحظ أنّ ثمّة مشكلة في تصديق الفانتازيا التي تحاول الروائيّة إيهامنا بها من خلال جعل بطلي القصّة جثّتين مجهولَتي الاسم (هي وهو). ففي السطرين الأوّلين من الرواية نقرأ: «كان لا يزال بي رمق، لم ينتبه المسعفون حين رموا بي في مكان تكدّست فيه الجثث»، فعمليّتا الرمي والتكدّس توحيان بالفوضى والسرعة، فضلاً عن عدم انتباه المسعفين. غير أنّنا نقرأ في الصفحة التالية: «لا أعلم كم من الوقت مضى حين دخل أحدهم، يتفحّص بنظراته الجثث المرصوفة بانتظام ككتب مجلّدة وأنيقة، أو بذل نظيفة وصلت من المكوى للتوّ»، ولا يخفى أنّ الرصف والانتظام والأناقة والنظافة، مفردات لا تتلاءم مع الوصف الوارد سابقاً. نعود إلى الصفحة الأولى للتدقيق في الأمر، فنجد أنّ الجثّة الأنثى تشير إلى فقدانها الكثير من الدم، ثمّ تحاول الجثّة نفسها (هي) أن تفهم سبب موتها فتقول إنّ السبب قد يكون حادث سيّارة أو رصاصة في الحنجرة أو (وهنا الغرابة) انه إسراف في التدخين. فكيف يمكن أن يتسبّب الإسراف في التدخين مثلاً في فقدان الكثير من الدم؟ هذا الارتباك في الصفحات الأولى، إن لم نضعه في كون الرواية هي الأولى لصاحبتها، قد يعود إلى رغبة الكاتبة في التلميح إلى أنّ الجثّتين ليستا جثّتين وأنّ المكان ليس مشرحة في مستشفى، وبخاصّة حين نقرأ أنّ (هي) تتكلّم ولا تصغي «لا تتوقّف هذه المجنونة عن الكلام. لا تسمعني على ما يبدو» (ص22)، وأنّ (هو) لا يتكلّم، وأنّ المكان يغرق في العتمة «الظلمة حالكة هنا» (ص16)، ومع ذلك ف(هي) ترى من يدخل ويخرج. وبالتالي فما سنقرأه ليس من الكتابة الغرائبيّة التي تجعل الموتى يحكون عن موتهم وعالمهم الآخر، بل هو حوار بين امرأة ورجل على حدود الوجود: هي تريد الحياة وهو يريد الموت، وإن بدت النهاية التي يصحو فيها هو وهي من تأثير السكر، عادية بسيطة. بداية وخاتمة لكنّ المفاجأة الحقيقيّة تبقى ما بين البداية المرتبكة والخاتمة المستهلكة، ما يجعلنا نقول إنّ الحبكة الروائيّة هي الإطار الخارجيّ، المفتعل ربّما، لمجموعة أفكار عميقة ومواقف لافتة من الإنسان والوطن والحياة والموت والحبّ والجنس والدين والحرب والعلاقة مع الأهل، وكلّها أمور يتمّ التعامل معها برقابة ذاتيّة مشدّدة ولا يقاربها المرء إلّا متى تخلّص من هذا الرقيب. وهنا تنجح «ليلى عيد» في وضعنا أمام زبدة السرد والوصف، في شكل يختلط فيه الجدّ بالهزل، والفصيح بالمحكي، والمباشر بالمتخيّل، والنثر التقريريّ الجاف بالصور الشعريّة الموفّقة. كلّ ذلك بلغة جميلة وسليمة تكاد تكون نادرة في كثير من الإصدارات الروائيّة الحديثة، فبدت الكاتبة في باكورتها الروائيّة واثقة من قدرة شخوصها على حمل رؤاها، فأعطتهم حرّية مطلقة في البوح. وفي محاولة ذكّية للتفلّت من قيود المجتمع الذي يفرض قيوده جعلتهم يتصارحون في حانة يشربون فيها حتّى الثمالة، ويثرثرون حتّى الصحو. وبعد ذلك يسهل على الإنسان أن يتبرّأ من أقواله وأفعاله. في اختيار ذكيّ موفّق، جعلت «ليلى عيد» الرجل مصوّراً وصوره شاهدة على تحوّلات المجتمع وأحوال الناس، لذلك جعلت «هو» في خاتمة الرواية يذكّر «هي» كمن يهدّدها بعدما زال مفعول الكحول. الكلمة المفتاح في الرواية هي الخيانة: فالكلّ يخون الكلّ، المرأة (هي) تخون نفسها وتتزوّج من «سمير» الذي لا تحبّه، و «سمير» يخون ثقتها ولا يخبرها بمثليّته، حبيبها الألمانيّ يخون زوجته معها، وعشيقها اللبنانيّ يفعل مثله؛ والرجل (هو) يخون زوجته وأصدقاءه، وأمّه تخون والده ثمّ تخون عشيقها مع عشيقتها؛ والجيران يغدرون بجيرانهم، والناس بالوطن، والأقوياء بالضعفاء... ولعلّ الخيانة الكبرى هي تلك «يقترفها» الأبناء في حقّ أهلهم، فحين تصوّر (هي) براءة والديها القرويّين، تجعلهما عاجزين عن حماية العائلة من جنون الحرب وآثارها المدمّرة، كأنّها ترى في «طهرهما» سذاجة لا تلائم طبيعة هذا المجتمع. في المقابل، يفضح (هو) شذوذ والدته وغباء والده المتعامي عن طبيعة زوجته الشبقة، لذلك كان مصير هذين الرجلين الموت قتلاً على أيدي المسلّحين، كأنّ الحرب جاءت في موعدها لتفضح العلاقات العائليّة الواهية ولتنتقم للأبناء من عجز آبائهم وفشلهم في الحفاظ على العائلة والوطن. ففي هذا الوطن الذي أعطته الكاتبة اسم حانة رقم 2 لا يبدأ الخلل مع الحرب إذاً، بل ينفضح معها، ما يترك الجميع أمام صور تظهر تركيبة المجتمع اللبنانيّ على حقيقتها: جثث تدّعي الحبّ والحريّة والحياة، وعلاقات شاذّة (على مختلف المستويات) تختبئ خلف أقنعة مخادعة، ووطن خرج أبناؤه من عتمة الملاجئ إلى عتمة الحانات بعدما انكسرت الأحلام وخبا وهج القضايا الكبيرة.