ما كاد الرئيس الأميركي باراك أوباما ينهي خطابه التواصلي مع العالم الإسلامي والذي ألقاه في جامعة القاهرة، حتى دار الحديث في الإعلام والسياسة في الولاياتالمتحدة عن «ظاهرة القاهرة» وعن «عامل أوباما» وتأثيرهما على المجريات والأحداث في الشرق الأوسط. فجاءت التغطية (المحدودة حكماً) للانتخابات النيابية اللبنانية في الصحافة الأميركية في العديد من الحالات مقرونة بالتحليلات التي تعلن اعتباطاً أن نتائج هذه الانتخابات هي أول الغيث في المرحلة الجديدة التي افتتحها أوباما في القاهرة. والقارئ الأميركي بطبيعة الحال غير معني، إلا في ما ندر، بالانتخابات في لبنان وهو مستعد من باب استتباب وهم المبالغة في الأهمية الذاتية للولايات المتحدة لقبول تلقائي لمقولة تأثير خطاب أوباما على نتائجها. ولا شك في أن الاهتمام الإعلامي والسياسي في الولاياتالمتحدة بالانتخابات الرئاسية الإيرانية كان ابتداء أكثر بروزاً. وجاءت التطورات الخطيرة إثر صدور النتائج الأولية لهذه الانتخابات لتضاعف من هذا الاهتمام. وإذا كان ترقب الأوساط السياسية يتركز على الخطوات التي يتخذها الرئيس الأميركي إزاء هذه التطورات، فإن جدلاً مسيساً يحتدم في الخلفية حول دور أوباما ليس في معالجة المستجدات وحسب بل في تحفيز ضمني لما شهدته إيران. وأساس هذا الجدل هو التقييم الإجماعي في مختلف الأوساط السياسية في الولاياتالمتحدة بأن ما حدث يشكل ضربة قاصمة، وربما قاضية على المدى البعيد، لنظام الجمهورية الإسلامية في إيران، وإن كان ذلك لا يعني انتهاء هذه الجمهورية بين ليلة وضحاها. فالقراءة في واشنطن هي أن الأحداث الجارية قد أثّرت سلباً على صدقية هذا النظام وأنهت التعظيم الذي صاحب تسويقه الدعائي في المنطقة. فالمسألة في السجال ذي الطابع الحزبي في الولاياتالمتحدة هي ادعاء الفضل في «الإنجاز» الإيراني للرئيس الأميركي الحالي وسياساته، إذ ما تحقق قد تحقق في عهده، أو تجييره للتوجهات التي حبّذها سلفه، واعتبار أن منحى الرئيس الحالي قاصر في التعامل مع الوقائع المستجدة. ولا شك في أن أوباما نفسه، انطلاقاً من رغبته المعلنة بقطع الطريق على أي توظيف سلبي لمواقفه داخل إيران في اتجاه قمع المعارضة، قد امتنع عن ادعاء أي دور في ما يجري بل وأكد تكراراً بأن البعد السياسي للخلاف في طهران هو مسألة داخلية إيرانية، وأن ما يعني الولاياتالمتحدة هو الجانب المتعلق بالحريات وحقوق الإنسان في الإصرار على احترامها والاعتراض على تجاوزها. غير أن الموقف المعلن للرئيس الأميركي لا ينهي التجاذب السياسي. فأنصار الرئيس يشيرون إلى أن أجواء التهدئة التي عمل أوباما على إرسائها إزاء إيران هي التي أتاحت المجال أمام المعارضة الإيرانية للتعبير عن رأيها، إذ لو كان التوجه الأميركي السابق والقائم على تهديد إيران بالضربة وما شابه مستمراً، لتراصت مختلف التيارات الإيرانية صفاً واحداً ولما كان ثمة تعبير كالذي تشهده البلاد اليوم. فسياسة أوباما تشكل في نظر مؤيديه تمكيناً للمعارضة الإيرانية. في المقابل، فإن خصومه يسألون أين التمكين حين أكّد أوباما للحكم في طهران عن استعداده للشروع بتفاوض من دون شروط، فالاعتراض على أوباما كان ولا يزال أنه تباطأ في إدانة هذا النظام، وحين صدرت الإدانة، جاءت ملتبسة وقابلة للتراجع. وما يراه أنصار الرئيس مهارة في الموازنة بين الاعتبارات العملية والمبدئية، يجد فيه خصومه ضعفاً ونفاقاً. وبعيداً من المزاعم المََُسَيسة في واشنطن، لا شك في أن الانتفاضة الإيرانية، على رغم محدوديتها اجتماعياً وجيلياً وإلى حد ما طبقياً واقتصارها على شرائح مدينية ذات ثقافة معينة، تشكل تعبيراً في أوساط عدة عن رفض للنظام القائم، ولا تقتصر على اعتراض على نتائج الانتخابات. وسواء تمكنت مؤسسات الجمهورية الإسلامية من احتواء هذه الانتفاضة عبر التبديد والقمع وبعض المعالجة، وهو الراجح، أو تفاقم صراع الأجنحة داخل السلطة، وهو الصراع الذي انسابت الانتفاضة من خلاله إلى واجهة الحدث من دون أن تكون دوافعها متطابقة معه، إلى حد الانفراط السريع لعقد الجمهورية الإسلامية، وهو أمر مستبعد، فإن ما جرى يكشف عن عمق التباعد بين السلطة في إيران وأوساط اجتماعية وثقافية ذات تأثير وقدرة على التحرك. وهذه الأوساط ليست خليقة غربية، بل هي حالة إيرانية صادقة، وإن سارع النظام داخل إيران، والإعلام الأهوائي خارجها إلى وصمها بالعمالة. ودوافعها ليست للإضرار ببلادها على رغم أن سلوكها في بعض الأحيان ينم عن عدم نضوج في صياغة أساليبها، بل إن ما يحركها هو الحالة التكبيلية الشمولية التي تفرضها عليها الجمهورية الإسلامية. والمنهج المتبع في مطلع عهد الرئيس السابق جورج دبليو بوش، انطلاقاً من مبادرات مبدئية أقدم عليها ناشطون إيرانيون وأميركيون، كان تقديم الدعم للمجموعات في الداخل الإيراني العاملة وفق معايير تتفق مع القيم الأميركية، وإن بأحجام متواضعة وفي شكل غير مباشر، لتمكينها من تطوير أساليبها وخططها. وقد أفاد الدعم هذا بعض هذه المجموعات بأقدار متفاوتة، ولكنه قدم كذلك المبرر للأجهزة الأمنية الإيرانية للشروع بحملات قمعية، فالحصيلة لم تكن إيجابية، ما يفسر الابتعاد عن هذا المنهج في الأعوام التالية. وثمة تأثير أميركي آخر على تطور المعارضة في إيران، وهو تأثير لا يستطيع أي من الحزبين الأميركيين ادعاء الفضل في شأنه، إذ هو الدور الذي تقوم به الجالية الإيرانية في الولاياتالمتحدة في تقديم ثقافة بديلة عن النظام الشمولي للوطن الأم عبر تقنيات الاتصالات المعلوماتية والفضائيات، وهي ثقافة تتسم بالتعددية وتتراوح من العلمانية إلى التدين، ومن الترفيه إلى التعبئة السياسية، ويشوبها في العديد من الأحيان إفراط تعويضي في الاعتزاز والاستعلاء القوميين (وهذان على أي حال سمة باطنة في الجمهورية الإسلامية). فحصّة الولاياتالمتحدة في الانتفاضة الإيرانية هي أمر واقع، أما حصّة أوباما نفسه فهي في السياسة التي سوف ينتهجها إزاء هذه الانتفاضة وتأثيرها المستقبلي عليها أكثر منها في تصريحاته السابقة ذات الأبعاد المتداخلة.