لكلمة «فقر» في لبنان معان لم تتعرف إليها القواميس بعد، فهي لا تشير إلى العوز فقط أو الحاجة إلى المساعدة الخارجية أو حتى المستوى المعيشي المنخفض، إنما تدل على ظواهر أبعد من ذلك بكثير. فالفقر على الأراضي اللبنانية بات يعني الذل والتهميش والموت بسبب المرض وتفتيش الأطفال عن كسرة خبز في مكبات النفايات. وعلى رغم أن بلداناً عدة تعاني من مشكلة الفقر وتأثيراته السلبية على الاقتصاد الوطني والتنمية البشرية، فربما يبقى للفقراء نوافذ أمل من خلال الدعم الحكومي والمعونات. إلا أن المشكلة في لبنان أعمق، والسبب يعود إلى زيادة أعداد الأفراد الذين ينضمون إلى دائرة الفقراء يوماً بعد يوم مع استمرار الأزمة الاقتصادية وارتفاع أسعار مختلف السلع والخدمات. ولم يعد الكلام عن الفقر محصوراً بتحاليل الخبراء الاقتصاديين أو خطابات السياسيين، إنما تقدم الأرقام دليلاً واضحاً على تجذر المشكلة إذ حددت نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر ب28.5 في المئة، أي أن الفرد الواحد المنتمي إلى هذه المجموعة يتقاضى 4 دولارات يومياً، بحسب برنامج الأممالمتحدة الإنمائي. وإذا كانت هذه الأرقام كفيلة بوصف حال الفقر في لبنان، فلا بد من التذكير بأن الإحصاء الرسمي الأخير أعلن عنه في عام 2004، أي قبل 7 سنوات وبالتالي فإن أي أرقام يُعلن عنها يمكن ألا تكون دقيقة في ظل التأجيل المستمر لمشروع الإحصاء. ويتوقع خبراء اقتصاديون أن تكون نسب الفقر أعلى بكثير اليوم بعد سنوات من العجز الاقتصادي، ما يعني أن الفقر أصبح هو القاعدة وليس الاستثناء بين اللبنانيين. ويكفي التدقيق في سجلات الجمعيات الأهلية لملاحظة الزيادة العالية في طلب المعونات المالية والعينية خلال السنوات الأربع الأخيرة، حيث سجلت إحدى الجمعيات ذات الطابع الديني زيادة عدد المعوزين من 200 شخص عام 2007 إلى 950 خلال عام 2011. وهكذا تبدو الأرقام أعلى سنة بعد أخرى لتؤكد توسع رقعة الفقر من دون وجود أي تدابير وقائية وحمائية لهذه الفئات المهمشة. أين الحكومة اللبنانية من كل هذه الوقائع حول الفقر؟ تساؤل طالما طرحه اللبنانيون كلما رأوا مسنين ينامون على الأرصفة ويحتمون بالجسور خلال تساقط الأمطار، وفي كل مرة يلمحون مجموعة من الأطفال تنغمس بين النفايات بحثاً عن لقمة العيش، إلا أن الجواب الإيجابي لم يكن يتبادر يوماً لأذهانهم. فغياب السلطات الحكومية عن الملفات الاجتماعية ومنها الفقر بات أمراً محكماً بالنسبة إليهم، والانفجار الاجتماعي لم يعد بعيداً بعدما سقطت الحواجز المانعة لزيادة تأزم مشكلة الفقر. لكن الجواب هذه المرة كان يحضر في أروقة السراي الحكومية، والجهود الوزارية كانت تسابق الوقت لإعلان برنامج يحتضن أكثر العائلات فقراً في بادرة يمكن أن تمتص الغضب الشعبي من الأوضاع الاقتصادية. وهكذا فاجأت وزارة الشؤون الاجتماعية المواطنين منذ أيام، بإطلاق البرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقراً تحت شعار «الدولة حدك انتَ وين؟» بما يعني أن المواطن يحتاج إلى التقرب من الدولة لتستطيع مساعدته. واعتبر الوزير وائل أبو فاعور أن هذا البرنامج يمثل «خطوة على طريق الاعتراف بالوظيفة الاجتماعية للدولة»، وهو يسعى إلى «الأخذ بيد العائلات الأكثر فقراً لكسر معاناة الفقر»، من دون أن يكون مأسوراً بأي اعتبارات للطوائف والمناطق والاصطفافات السياسية. المفاجأة كانت رد الفعل التلقائي للبنانيين تجاه هذا البرنامج، وكثرت التساؤلات التي أحاطت به. فهل ستوظف الأموال العامة في شكل صحيح هذه المرة وتُنفَق على الأشخاص المعوزين حقاً؟ وهل يمكن لبرنامج واحد أن يحل أزمة الفقر في لبنان؟ وسرعان ما توضحت مسيرة هذا البرنامج الذي ينقسم إلى مراحل متتالية، بحسب ما أوضحت الوزارة، تبدأ بعملية تسجيل المواطنين الذي يعانون من الفقر في مراكز معينة، ومن ثم يكون هناك تحقيق ميداني للتأكد من حال الأسرة المحتاجة. وعند اختيار الاستمارات المستوفاة للشروط ترفع إلى مجلس الوزراء لتحديد سلة التقديمات التي تتضمن مساعدات نقدية وخدماتية. وتتوقع الوزارة أن يصل عدد المستفيدين إلى 400 ألف مواطن يمكن مساعدتهم. وربما تكون مسيرة عمل البرنامج تتطلب فترة من الوقت، إلا أن الوزارة طلبت من المواطنين أن يساندوها في هذه المبادرة من خلال تسجيل أنفسهم في حال كانوا يصنفون أنفسهم من الفئات المحتاجة. إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ ومنذ اللحظات الأولى للإعلان عن هذا البرنامج، بدأ الجدل حول مبدأ تقديم المساعدات النقدية والعينية في شكل مباشر للمحتاجين، باعتبار أن ذلك لن يساعدهم في تخطي أزمتهم إنما سيخفف عنهم الأعباء المالية موقتاً. ولتحديد وجهة نظر الفئة المستفيدة من هذه المساعدات، جالت «الحياة» في أحياء فقيرة عدة وتحديداً في منطقتي طرابلس (شمال) والبقاع (وسط) اللتين تضمان أعداداً كبيرة من الأسر المحتاجة. وبرزت وجهة نظر أساسية في ما يرتبط بالبرنامج بين المواطنين، فهو أشبه ب «مسكن يهدئ الوجع لكن لا يشفيه». ومن بين 50 أسرة تم استطلاع رأيها، أكد نحو 22 منها الرغبة في المشاركة في البرنامج فيما تركزت آراء المعارضين على فقدان الثقة بالبرامج الحكومية، وعلى أن حاجتهم إلى التنقل وتأمين الأوراق المطلوبة ستكلفهم ربما أكثر مما ستقدمه الدولة لهم من مساعدات. لكن هذه المواقف السلبية تقابلها بعض الآمال المعقودة على البرنامج الذي يمكن أن يساعد الأسر المحتاجة على تأمين الحاجات الأساسية أقله كالمأكل والمشرب والمسكن. وكما يقول الحاج حسين (65 سنة) وهو يسكن في منزل مصنوع من الحديد والخشب: «ربما تكون الدولة استفاقت على واجباتها فتنقذ ما يمكن إنقاذه قبل أن ينفجر الوضع نهائياً».